6th of April 1985 in Sudan

6th of April 1985 in Sudan

سودانيات

سودانيات هو منبري لمناقشة ومعالجة قضايا السودان مع السودانيين ومن هو قادر على فهم اللغة العربية. وما أطرحه من رأى على هذا المنبر هو رأى أنا شخصيا لايمكن أن يحاسب عليه أحد آخر. أما مبادئ المنبر فإنها تقوم على حرية الرأى،إحترام الرأى الآخر، الموضوعية، تحرى الدقة وتقصى الحقائق.

الجمعة، 3 مايو 2013

الحصاد المر في العلاقات السودانية المصرية الحلقة الثانية


 
This is the second and the third part of the article by Dr. Abdalla Gasmelseed
Uppsala - Sweden


الحصاد المر في العلاقات السودانية المصرية الحلقة الثانية
بقلم: عبد الله محمد قسم السيد
في الحلقة الأولى تحدثنا عن محاولات مصر المستميتة في فرض تبعية السودان للتاج الملكي المصري من خلال بعض قيادات الحزب الوطني الإتحادي تحت إشراف صلاح سالم الذي لم يترك إغراءا ماديا كان أو معنويا إلا وقدمه. إرتطمت تلك المحاولات بصخرة بالرغبة الجامحة للإستقلال والتي لم يجد إسماعيل الأزهري غير الإنصياع لها.

في يوم 19 ديسمبر عام 1955م تم إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان حين تقدم العضو عبد الرحمن محمد إبراهيم دبكة (دائرة نيالا) باقتراح للبرلمان يقضي بإعلان الاستقلال عن بريطانيا ومصر وقام بتثنيته العضو مشاور جمعة سهل(دائرة دار حامد غرب). هذا الإعلان كان له تداعيات سلبية عميقة في المجالات السياسية والإقتصادية على السودان وشعبه. هذه التداعيات السلبية لم تكن لتستمر لو كان السياسيون على قدر العزم الذي تميزت به جماهير مظاهرات مارس 1954م وشهدائهم الذين لولاهم لما نعم السودان وشعبه بالإستقلال.

بعد إعلان الإستقلال من داخل البرلمان تم تشكيل حكومة قومية برئآسة الأزهري ولم يمض عليها ستة أشهر حتى تضعضعت وسقطت بعد إنقسام الحزب الإتحادي في منتصف يونيو من عام 1956م بعد أن تم طرح صوت ثقة عليها.  بعدها قامت أول حكومة قومية ضمت الحزب الإتحادي الديموقراطي وحزب الأمة وحزب الشعب الديموقراطي وحزب الأحرار الجنوبي. هذه الحكومة لم تصل إلى أهدافها فيما يتعلق بقضايا السودان لعدم وجود برنامج يحدد تلك القضايا وطريقة الوصول إليها من ناحية، والمناكفات السياسية داخل الوزارة التي لا تتعلق بقضايا الشعب السوداني من ناحية أخرى. في هذه الفترة كانت التدخلات المصرية في السياسة  السودانية تأخذ أشكالا عدة هدفت لتوسيع الخلافات داخل الحكومة القومية بهدف تعزيز موقف الإتحاديين مقابل إضعاف حزب الأمة حتى تتمكن من التوصل إلى إتفاق بشأن مياه النيل وبناء السد العالي الذي تنوي مصر بناءه.
تخلي اسماعيل الأزهري عن فكرة الإتحاد مع مصر وتوجهه نحو إعلان الإستقلال من داخل البرلمان كان نقطة البداية في التحول في علاقة مصر مع الحزب الإتحادي الديموقراطي حيث أوقفت دعمها المادي والسياسي والإعلامي له الأمر الذي مكن حزب الأمة من الفوز في الإنتخابات الثانية عام 1958م حيث فاز ب 63 مقعدا. هذا الفوز لحزب الأمة كان من الممكن أن يمثل نقطة تحول كبيرة في السياسة التنموية للبلاد حين أعلنت الحكومة بقيادة عبد الله خليل وقف العمل بإتفاقية مياه النيل لعام 1929م بعد إنتهاء مدتها في عام 1959م وإعادة النظر فيها بالمنظور الذي يحقق تنمية السودان. ولكن هذا المنظور التنموي للسودان وشعبه أدى لعكس ما هو متوقع بسبب سلبية السياسة المصرية تجاه السودان وبسبب من كان هواه مصريا من سياسيي السودان.

 فوز حزب الأمة بأغلبية 63 مقعدا لم تمكنه من تكوين حكومة منفردا مما إضطره إلى تكوين حكومة إئتلافية مع حزب الشعب الديموقراطي بقيادة على عبد الرحمن وهو الحزب المنشق عن إسماعيل الأزهري. وكما هو الحال في الحكومات الإئتلافية لم تكن حكومة حزب الأمة وحزب الشعب الديموقراطي منسجمة في رؤيتها لمواجهة الكثير من المشاكل الإقتصادية والإجتماعية. وبسبب عدم الإنسجام هذا دخلت البلاد في أزمة سياسية كان نتيجتها قيام أول إنقلاب عسكري يشهده السودان وهو إنقلاب الفريق عبود في نوفمبر عام 1958م. هذا الإنقلاب والذي تصوره الكثير من الكتابات التاريخية الحديثة على أنه إنقلاب صوري تم عبر تسليم وتسلم قام به حزب الأمة إلا أن أبعاد وأسباب هذا التسليم والتسلم لم يتم تناولها بصورة علمية رابطة لكل الجوانب المتعلقة بهذا التسليم بما فيها مسيرة العلاقة التاريخية بين الحزبين المؤتلفين من جهة و تاريخية العلاقة بين حزب الأمة ومصر من جهة أخرى. فإذا نظرنا لما حدث بعين الباحث المتجرد فيما يتعلق بإنقلاب عبود العسكري لوجدنا بصمات النظام المصري واضحة من مرحلة الإعداد والتخطيط والتنفيذ وحتى الدعم بعد نجاحه وهو نفس السيناريو الذي تكرر في إنقلاب مايو بقيادة نميري وإنقلاب الجبهة الإسلامية بقيادة البشير مع إختلافات طفيفة لا تنفي التدخل المصري كما سنعمل على تبيانه لاحقا.

 لم تكن تتوقع مصر موقف حكومة عبد الله خليل المتشدد فيما يتعلق بمياه النيل مما دفعها إلى التفكير في إسقاطها حيث لجأت إلى حلفائها التقليديين ممن كان ينادي بوحدة وادي النيل. وبسبب الإنقسام داخلهم كان على مصر العمل على توحيدهم أولا وقد تم ذلك بدعوة قياداتهم إلى مصر. وبعد أن إجتمع الطرفان في ضيافة مصر، صرح إسماعيل الأزهري متحدثا بإسم الحزب الوطني الاتحادي بإعترافه باتفاقية مياه النيل لعام 1929م التي أرادت تعديلها حكومة عبد اله خليل. كان هذا الإعتراف للأزهري بالإتفاقية إشارة واضحة بأنه سيكون ممتنا لمصر إذا رجع إلى الحكم بالصورة التي حدثت في إنتخابات عام 1953م حين لعبت الأموال المصرية الدور الكبير في فوزه. من جانب آخر صرح علي عبد الرحمن رئيس حزب الشعب الديموقراطي بأن حزبه يقف في المعارضة على الرغم من أن حزبه حتى تلك اللحظة كان جزءاً من الإئتلاف الحكومي. الأمر الذي يعني بوضوح أن حزبه لا يمانع في الوحدة مع حزب الأزهري من جديد تحت رعاية مصرية. مثل هذه التصريحات في دولة أجنبية كانت دولة محتلة للسودان وما زالت تعتبره حقا تاريخيا لها، تحمل الكثير من المعاني لأي حاكم وطني غيور على السودان وشعبه. في هذا الجو السياسي الذي يهدد ليس الوضع الديموقراطي بل استقلال البلاد وسيادتها لم يكن أمام عبد الله خليل رئيس الوزراء إلا أن يسلم الحكم للجيش حتى يقوم بمهمة الدفاع عنها‏‏. كان الهدف الأساسي إنقاذ البلاد من خطر إعادة إستعمارها من جديد قبل أن يكون إنقلابا عسكريا على وضع ديموقراطي خاصة أنه قد سرت إشاعة بأن مصر تخطط لتدبير إنقلاب عسكري في السودان يطيح بحكومة حزب الأمة. وكما يقول منصور خالد كان تسليم عبد الله خليل للسلطة للفريق عبود في هذا الظرف أكثر جدوى من الحفاظ على ديموقراطية لا يستحي بعض المشاركين فيها أن يقفوا ضد مصالح شعبهم.[1] ويعني منصور خالد بذلك موقف بعض قادة حزب الشعب الديموقراطي.

وحتى تخلق أزمة داخلية لحزب الأمة ارسلت حكومة مصر خطابا الى حكومة السودان في فبرائر من عام 1958م تعلن فيه سيادتها على اراضي سودانية شمال شرق السودان وهي المنطقة المعروفة بمنطقة حلايب و منطقة شمال مدينة حلفا، مناطق: سره، ودبيرة، وفرس. وفي تبريرها لهذا الإحتلال أعلنت ان هذا تم حسب الاتفاقية بين مصر وبريطانيا سنة 1899م. كان رد الفعل لحكومة السودان أن بعثت وزير الخارجية السوداني لبحث الموضوع مع المسئولين المصريين ولما لم يصل الجانبان الى إتفاق قامت القوات المصرية بحشد جيشها على الحدود. وحتى تتأكد من موقف مصر في منطقة حلايب أرسلت الحكومة السودانية على حسن عبد الله، وكيل وزارة الحكومة المحلية في السودان لزيارة منطقة حلايب، وتأكد له وجود القوات المصرية داخلها. كان رد الفعل من حكومة عبد الله خليل إعلان التعبئة العامة للدفاع عن حدود السودان كما رفعت الأمر إلى مجلس الأمن موضحة فيه أن المنطقتين تتبعان للسيادة السودانية وتديرهما حكومة السودان ولم تشتركا في اي انتخابات او استفتاءات مصرية. بل بالعكس اشتركتا في الانتخابات السودانية سنة 1953 والتي اجريت حسب اتفاقية سنة 1953 البريطانية المصرية التي منحت السودان الحكم الذاتي في الطريق نحو تقرير مصيره. لم تقف الحكومة السودانية في توضيح سيادتها على هذه المناطق بل حذرت في نفس الوقت في رسالتها إلى مجلس الأمن بأن حكومة السودان نحرص على الدفاع عن السيادة السودانية على المنطقتين. وأنها مستعدة للتمهل لحل المشكلة سلميا كما تؤكد ان المشكلة يمكن ان  تتطور الى مواجهة عسكرية. رسالة واضحة المعالم والنوايا من حكومة يقودها حزب الأمة لما سيترتب عليه عدم إنسحاب مصر. جاء الرد المصري على موقف السودان ملئ بالإستفزاز والمغالطات كما جاء في دك محمد علي صالح في ترجمته للوثائق الأمريكية عن السودان والمنشوة في صحيفة سودانايل الإلكترومية.[2] 

في هذا الوقت والذي من المفترض أن تقام فيه إنتخابات عامة بدأت أحزاب المعارضة وعلى رأسها الإتحادي الديموقراطي بإستثمار هذا الموقف للحكومة سياسيا ضدها وظهر ذلك في عدة مواقف. ففي نفس الشهر فبرائر 1958م الذي احتلت فيه مصر حلايب، أرسل الازهري خطابا إلى عبد الناصر جاء فيه: "اود منكم ايها الاخ الكريم ان يستمر الوضع الراهن حتى بعد نهاية الانتخابات. وانا متأكد انه، بعد ذلك، ستقدر العلاقات والعواطف الاخوية بين شعبينا على الوصول الى حل سلمي. وليوفقنا الله على طريق الحكمة والتعقل."[3] هذه الرسالة تحمل رفض الأزهري للطريقة التي تتبعها حكومة عبد الله خليل من جانب كما تحمل معنى تغيير أسلوب التعاون إذا ما جاء هو إلى سدة الحكم من جانب آخر. جاء رد عبد الناصر للأزهري يحمل نفس المعنى مع الإعتذار وإلغاء اللوم على الإمبريالية وذلك في قوله "نحس بالاسف لتطورات الايام الثلاثة الماضية.  ونحن نبذل كل جهد لحل المشاكل بيننا حلولا سلمية.  لكننا فوجئنا والقول ل عبد الناصر، بالاخبار غير الصادقة بان الجيش المصري يغزو السودان.  ستساعد مثل هذه الاخبار فقط الامبريالية التي تريد خلق مشاكل بين الشعبين المصري والسوداني.  واتفق معكم على ان روح العلاقات والتعاون بين شعبينا ستقدر على وقف اي تطورات الهدف منها خدمة اعدائنا.  والسؤآل هل يا ترى قامت الإمبريالية بدفع الجيش المصري للحدود السودانية أم أن القائد الأعلى للقوات المصرية هو الذي أمرها بذلك؟ أما إعلاميا فقد إنتهز الإعلام المصري خطاب الأزهري وجمال عبد الناصر ليوضحوا للشعب السوداني ان اسماعيل الازهري، رئيس الحزب الاتحادي، لعب دورا كبيرا في حل مشكلة حلايب بهدف زيادة اسهم الازهري في الانتخابات على حساب حزب الامة وعبد الله خليل. 

تحت هذه الضغوط الخارجية من قبل مصر والداخلية من قبل أحزاب المعارضة قام عبد الله خليل بتسليم السلطة للجيش ليتحمل مسئوليته تجاه حماية البلاد. وفي بيان صدر عن الإمام عبد الرحمن المهدي أيد حزب الأمَّة الإنقلاب العسكري[4] كما أيده حزب الشَّعب الدِّيموقراطي والحزب الوطني الاتحادي. بيانات تأييد إنقلاب عبود كانت ذات أهداف مختلفة فبينما كان تأييد الإمام عبد الرحمن هو ترك الأمر للجيش للدفاع عن البلاد كان هدف الإتحاديين إبعاد حزب الأمة عن الحكم. يقول تيم نبلوك " التقارب بين الإتحاديين مع النظام العسكري هدف إلى تمتين العلاقات مع مصر، وتسهيل مهمة توقيع اتفاقيَّة مياه النيل عام 1959م. وبالتالي أصبح تأييد الختميَّة ضروريَّاً ليس فقط لبقاء النظام العسكري وإبعاد تهمة عدم الشَّرعيَّة عنه، وإنما لدوام العلاقة بينه والنظام المصري"[5]  
بدأت بعد إبعاد حزب الأمة من الحكم، المفاوضات بين السودان ومصر فيما يتعلق بمياه النيل وكما أوضح الدكتور سلمان أحمد سلمان في دراسته الموثقة والمنشورة على صفحات الصحف السودانية كالراكوبة وسودانيل أن المفاوضات جاءت لتصب كلية في مصلحة مصر بفضل قادة الحكم العسكري الأول بقيادة الفريق إبراهيم عبود ومن بقايا وهم وحدة وادي النيل التي لجأ إليها نظام الإنقاذ حاليا والتي سنتناولها في حلقة خاصة. هذا الموقف المصري سيتكرر لعقود تالية عقب كل ثورة يقودها الشعب السوداني يأتي بعدها حزب الأمة لقيادة البلاد من خلال إنتخابات حرة نزيهة كما سنوضح في الحلقات القادمة.


 للمزيد أنظر (أقوال الفريق عبود في التحقيق الجنائي حول الانقلاب بعد ثورة أكتوبر 1964 ـ التجربة الديمقراطية، وتطور الحكم في السودان، إبراهيم محمد حاج)‏.‏‏ والدكتور منصور خالد، في كتابه، (السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام ـ قصة بلدين، دار تراث، 2003،  الصفحات 232-233   
[1]
[3]  للمزيد في هذا الجانب أنظر محمود قلندر السودان ونظام الفريق عبود 17 نوفمبر _21 أكتوبر  64 مراجعة صحفية لملابست التدشين الأول للمؤسسة العسكرية في دهاليز السياسة السودانية. دار عازة اانشر، الحرطوم، السودان  2012م
[4] (تيم نبلوك؛ صراع السلطة والثروة .. ، ص 210).
[5] "مذكرات خضر حمد ـ ذكرها القدال في معالم ..، ص 107 كذلك أنظر المرجع أعلاه
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------


الحصاد المر في العلاقات السودانية المصرية الحلقة الثالثة .. بقلم: عبد الله محمد قسم السيد

إنتهينا في الحلقة الثانية إلى أن مصر عملت على توحيد حلفائها لإسقاط حزب الأمة ليسهل لها تحقيق هدفها في إستمرارية مصالحها المائية وتسهيل بناء السد العالي وقد تحقق لها ذلك بالصورة التي لم تكن تتوقعها. لم تكتف حكومة عبود على التخلي من نصيبها في المياه بل وافقت على منح أراضي منطقة حلفا لتغمرها مياه السد العالي بثمن بخس لم يتعد 15 مليون دولار تدفع على أقساط لتغمر 7 آلاف سنة ملئ بحضارة وتراث كما يقول علماء الآثار خاصة في فرنسا وبولندا بسبقها للحضارة المصرية زمانا وثراءا.هذا التنازل الذي أبداه المفاوض السوداني في تلك المفاوضات يتطلب إعادة النظر لمعرفة أسبابه الحقيقية إذ ليس من السهل أن يقدم سوداني وهو بكل قواه العقلية للتوقيع على إتفاقية ضد بلده ومصالحها .

لم يكد الشعب السوداني يطيح بحكومة عبود العسكرية في ثورة شعبية عارمة حتى بدأت مصر من خلال إعلامها بتبخيس ثورته التي تلتها حكومة ديموقراطية منتخبة على رأسها حزب الأمة. لهذا بدأت مصر تدخلها السالب فيما يتعلق بالديموقراطية في السودان مرة أخرى عام 1969م بدعمها لإنقلاب جعفر نميري المتعارف عليه بنظام مايو. غير أن هذا التدخل لم يكن كسابقه من خلال دعم القوى المساندة لوحدة وادي النيل ولكنه جاء من خلال دعم القوميين العرب بالتعاون مع الإشتراكيين التقدمين من جانب كما أنه صحبته توجهات عملية في إزالة كيان الأنصار وحزب الأمة بإعتبارهما قوى رجعية تعمل ضد مصلحة السودان وشعبه. لعب النظام المصري دورا كبيرا ليس فقط في التخطيط والإعداد والتنفيذ للإنقلاب ولكن على نجاحه وإستمراريته. ففيما يتعلق بالإعداد والتنفيذ لإنقلاب مايو إستقلت مصر البلبلة السياسية التي تلت طرد الحزب الشيوعي السوداني من الجمعية السياسية بعد حادثة معهد المعلمين بأمدرمان وبدأت في التخطيط له من قبل القوميين العرب من خلال بابكر عوض الله وتقديم تمويل للانقلابيين من خلال بنك مصر بالخرطوم ومديره محمد عبد الحليم. وبالطبع كان الموالون لمصر سباقين لتأييد الإنقلاب فكان على رأسهم الميرغني والشيخ علي عبد الرحمن. كذلك كان الشيوعيون أول من بارك الإنقلاب ودعمه.

يؤكد شوقي ملاسي الدور المصري في التخطيط والتنفيذ للإنقلاب في مذكراته التي عرضها الصحفي مصطفى البطل في جريدة الأحداث حين إلتقى اللواء مصطفى عبد العزيز وكيل وزارة الداخلية المصرية، بتكليف من وزير الداخلية زكريا محى الدين بزيارة السودان بقادة التنظيم الناصرى بحضور بابكر عوض الله نائب رئيس القضاء. كان هذا اللقاء بداية التنسيق لانقلاب مايو حزب سوداني ذي توجه عقائدي وبالتنسيق مع مكتب الشئون العربية برئاسة الجمهورية المصرية. وكما يقول البطل كان بابكر عوض الله " ضالعاً فى التخطيط السياسى العقائدى بينما هو جالسٌ فعلياً على منصة القضاء" مستندا في حديثه على مذكرات شوقي ملاسى التي يقول فيها "ان بابكر كان ناشطاً فى حركة الناصريين أثناء إضطلاعه بالتكليف القضائى. .. ان الاشتراكيين العرب والناصريين السودانيين كانوا على اتصال منتظم بمكتب وزير الرئاسة فى مصر سامى شرف، عن طريق مسئول الشئون العربية برئاسة الجمهورية فتحى الديب. وكان يمثل الطرف السودانى الناصرى بابكر عوض الله والعميد احمد عبد الحليم والطاهر عوض الله، وقد قامت السلطات المصرية من جانبها بتعيين محمد عبد الحليم (شقيق احمد عبد الحليم) بدرجة مدير ببنك مصر بالخرطوم، وكان هو المسئول عن تمويل الانقلاب." نقلا عن صحيفة "الاحداث" – 24 مارس 2010. بعد نجاح الإنقلاب تم التوقيع على ميثاق طرابلس بين السودان ومصر وليبيا في عام 1969م والذي نص على الدفاع المشترك بين تلك الدول الثلاث في حالة التعرض لغزو أجنبي أو لخطر داخلي.
لم يكن خافيا على المعارضة لنظام مايو الدور الذي لعبته مصر في نجاحه وإستمراريته لهذا كتب الإمام الهادي زعيم الأنصار لعبد الناصر قائلا "في 25 مايو قامت جماعة من الضباط الشيوعيين والناصريين بإنقلاب فألغت الدستور وصادرت الحريات وسجنت الناس ولا تزال تمارس طيشها في كل مرفق في البلاد. وتأكدنا أنكم قد إشتركتم في تدبير هذا الإنقلاب في إجتماع عقد بالقاهرة بين سيدتكم وبابكر عوض الله وعبد الكريم ميرغني كان سفير العهد الديموقراطي في بلادنا." ويواصل الإمام الهادي حديثه "وبمرور الأيام تنكشف الحقيقة وتنفضح إذ إنهال عونكم على الإنقلابيين بشكل ملفت خاصة في مجال الأمن والإستخبارات" ويؤكد لعبد الناصر بأنه بإسم الشعب يرفض سيطرة أي جهة خارجية على الشعب السوداني وذلك في قوله "إنني بإسم المعارضة في بلادنا وهي الشعب كله بإستثناء الشيوعيين والموصومين بعدم الولاء للوطن- أرفض أي إجراء أو إقرار يخضع السودان لسيطرة غير سيطرة أبنائه تحت أي شعار.

ولما كان الأنصار وحزب الأمة يمثلون القوة الشعبية والتي يتخوف منها دوما الشيوعيون في الوقوف ضد مشروعهم السياسي والآيديولوجي، كان التركيز على إقصاء قيادتهم جسديا متى ما توفرت الفرصة لهذا وفي عام 1970م، دعا الحزب الشيوعي سلطة نظام مايو (الثوريَّة!) للتدخُّل وتمكين القوى التقدميَّة على قيادة الحركة النقابيَّة تحت شعارات (حاسم حاسم يا ابو القاسم). وعندما تصاعدت الإحتجاجات والمعارضة لنظام مايو من قبل الشعب ممثلا في أحزابه الأمة وجبهة الميناق بحكم توجهه الشيوعي، قام الإنقلابيون بمساعدة الطيران المصري بضرب الأنصار في الجزيرة أبا وودنوباوي بحجة معارضتهم لنظام مايو وفق ميثاق طرابلس للدفاع المشترك بين السودان وليبيا ومصر. كان المسئول المباشر على الطيران الحربي المصري حسني مبارك . كانت حصيلة ذلك الهجوم 12 ألف قتيل من بينهم إمام الأنصار الهادي المهدي والذي قتل وهو في طريقه مغادرا السودان من ناحية الشرق. يصف محمد أحمد محجوب الدور المصري في قصف الجزيرة أبا بقوله "في 27 آذار أمر طائرات الميغ بقصف الجزيرة بالصواريخ، وفي ذلك الوقت لم يكن السودان يملك طائرات ميغ ولا طيارين يستطيعون قيادتها. مما جعل الكثيرين مقتنعين بأن القصف جرى بطائرات مصرية وطيارين مصريين." ويؤكد قوله ببيان صادر من وزارة الخارجية الليبية.

بعد ضرب الجزيرة وصلت الكثير من برقيات التأييد لضرب الأنصار في الجزيرة أبا وودنوباوي بينما خرج الشيوعيون في مظاهرات صاخبة تأييدا "للثورة الظافرة". فمثلا أرسل عبد الخالق محجوب بيانا مؤيدا ما حدث للأنصار جاء فيه " إن تصاعد الصراع السياسي والطبقي في بلادنا والذي اتخذ من الجزيرة أبا وودنوباوي مسرحا له ليس أمرا عابرا لأننا قد إستقبلنا بالفعل نقطة في تطور الحركة السودانية ... نستطيع أن نقول بأنه قد وجهت ضربة قاضية للتنظيم المسلح الرجعي في بلادنا، الضربة أنزلت بمجموع قوى اليمين في بلادنا ساحقة وأضعفت فعاليتها وقدرتها ... إن أي تقليل من شأن ما جرى يؤدي إلى التقليل أيضا من فرص العمل الثوري ومكانته في هذه الظروف وإن الضربة التي وجهت للتنظيم تفتح السبل أكثر من أي وقت مضى نحو حركة الجماعة الثورية بصورة حاسمة وفي مستويات أعلى الدرجات مما كانت عليه قبل معركتي أبا وودنوباوي كما يؤدي إلى تعاظم دور الحزب الشيوعي السوداني في الحياة السياسية"!!!هذا هو موقف الحزب الشيوعي وزعيمه من الأنصار وحزب الأمة والذي يؤكد على ضرورة تصفيتهم جسديا حتى يتعاظم دور الحركة الشيوعية ودور الحزب الشيوعي في السودان. وهو إتجاه عكس ما ينادي به الحزب في أدبياته والتي دائما تكتب أو تنقح بعد وقوع الأحداث والتأكد من خطئها كما جاء في مجلة (الشِّيوعي) "أن تحرير الجَّماهير العاملة من نفوذ الطبقات الرَّجعيَّة لا يتمُّ بقرار إداري تصدره السُّلطة .. (و) أن التنظيمات الدِّيموقراطيَّة ليست أجهزة رسميَّة، بل أدوات شعبيَّة في يد الجَّماهير، ويجب أن تظلَّ كذلك، وقد ناضل الحزب الشِّيوعي فى كلِّ الظروف لتحافظ تلك التنظيمات على هذه الصِّفة" (م/الشيوعى، ع/134). نواصل بإذن الله في الحلقة الرابعة

علي عبد الرحمن الأمين؛ الدِّيموقراطيَّة والاشتراكيَّة في السودان، ص 40
Richard Cockett 2010, Sudan: Darfur and the failure of an African State.Yale University Press, London. P 63.
محمد أحمد محجوب في كتابه "الديمقراطية في الميزان" (ص 261).

عمر مصطفى مكي: تأملات ماركسية في نهج القيادة الحالية للحزب الشيوعي السوداني، مطبعة جامعة الخرطوم ص 151

الخميس، 2 مايو 2013

المطامع المصرية ونظام الحكم في السودان -1



عبد الله محمد قسم السيد
 Uppsala - Sweden

التنوع والتعدد الذي يميز المجتمع السوداني وعدم مقدرة النخبة المستعربة التي سيطرت على السلطة والثروة فيه منذ إستقلال البلاد لا يمكن فهمه بعيدا عن الدور الذي تلعبه القوى الإقليمية والدولية. فالموقع الإستراتيجي للسودان تاريخيا جعله محط أنظار العالم القديم حين كان حلقة الوصل بين شمال أفريقيا وجنوب أوروبا في علاقاتهما مع وسط وجنوب القارة من جهة وبين غرب أفريقيا وقارة آسيا في الشرق من جهة أخرى. أما في التاريخ الحديث فإن موقعه الإستراتيجي شكل أهمية أخرى تتعلق بالمياه بإعتباره الأكبر مساحة في حوض النيل مما يشكل مخرجا لمشاكل نقص الغذاء عالميا كما رأت منظمة الزراعة العالمية وبإعتباره مطلا على واحد من أهم ممرات البترول من الخليج العربي إلى الغرب قبل أن يصبح هو نفسه دولة منتجة له. لعبت العوامل الخارجية دورا في قيام الدولة المهدية وتوحيد كلمة السودانيين بمختلف إنتماءآتهم القبلية والثقافية عندما كان التفكير للقيادة يشمل النظرة الشمولية المستوعبة للبعد اإستراتيجي للبلاد وأن نفس هذه العوامل قادت إلى سقوطها عندما ضاقت رؤية القيادات وانحصرت في إطارها القبلي والذاتي. وفي واقعنا المعاصر يعيش الشعب السوداني نفس التجاذب بين التفكير القومي والتقوقع في المصالح القبلية أو الجهوية أو الشخصية في وجود تلك العوامل الخارجية ولكنه افتقد القيادة السياسية القوية الإرادة والشكيمة مما كان نتيجيته المأساوية إنقسام السودان إلى دولتين كما أنه أصبح مهدد أن ينقسم إلى أكثر من ذلك. في تحليلنا لهذه العوامل الخارجية سنأخذ مصر كمثال.

لا يمكن معرفة سقوط فترات الديموقراطية في السودان والتي كان على رأسها جميعا حزب الأمة، بمعزل عن المطامع المصرية في السودان تاريخيا والتي كان حزب الأمة يري فيها إستعمارا جديدا للسودان تحت دعاوى وحدة وادي النيل تارة والهوية العربية الإسلامية تارة أخرى. فمنذ سقوط الدولة المهدية بتعاون مباشر بين مصر وبريطانيا ظل الأنصار ثم لاحقا حزب الأمة يرى كل محاولاته لتحقيق سودان مستقل يسير في إتجاه التنمية والوحدة والإستقرار تصطدم بدعاوى مصر بأحقيتها في أراضي السودان وفي الحفاظ على مصالحها التاريخية وهي تعني بجانب ذلك مياه النيل. لهذا لم يستمر أي وضع ديموقراطي في السودان بإعتبار أن أي إستقرار سياسي معناه تنمية ومعناه إستغلال لمياه النيل يؤدي إلى نقص حقها التاريخي خاصة إذا كان هذا النظام الديموقراطي يقوده حزب الأمة الذي يرى ضرورة التعامل بهدف المصلحة المشتركة ين البلدين. فقد وضح من كثير من المفاوضات بينهما خاصة فيما عرف بميثاق الإخاء في آخر فترة ديموقراطية بين عامي 1986 و1989م. وحتى ندرك أبعاد هذا التدخل فإننا نرجع إلى فترة ما قبل الإستقلال تاركين ما قبلها والتي كان فيها الدور المصري مكشوفا حين قاد إلى سقوط الدولة المهدية تحت الإستعمار البريطاني.
            الدور المصري في السياسة السودانية بهدف تأمين المصالح الإقتصادية لها أمر لم يعد خافيا على المواطن السوداني البسيط ناهيك عن من أصبحت حرفته السياسة من قادة الرأي والفكر في السودان. فإن كان في السابق البحث في هذا التدخل يمر بجوانب عاطفية ممثلة في وهم الثقافة العربية الإسلامية إلا أنه لم يعد كذلك مع بدايات القرن الواحد وعشرين حيث يشهد العالم كله التمركز حول الذات ومصالحها ولم تعد العاطفة وحدها هي التي تحركه. هذا الأمر ينطبق خاصة على شعب السودان الذي كان يتعامل بحسن نية تسبقها العاطفة والطيبة تجاه الآخر خاصة إذا كان هذا الآخر أجنبيا. ولكن خلال العقدين الأخيرين تغيرت هذه الصورة إلى ما يكاد يكون نقيضها بفضل عوامل عديدة لم تخرج جلها عن عباية السياسة والإقتصاد. فخروج أعداد كبيرة من السودانيين للعمل بدول النفط العربي وإحتكاكهم بجنسيات أخرى لا تفهم في العاطفة الإنسانية إلا ما تأتي به من مصالح إقتصادية، جعل الكثير منهم يعيد النظر في تعاملاتهم مع الآخرين والبدء في ربط معاملاتهم مع الآخرين بمصالحهم الإقتصادية. سارع في هذا التوجه إنقلاب الجبهة الإسلامية أو ما يعرف الآن بنظام الإنقاذ حينما جرد تعامله مع شعبه من قيم الرحمة والعاطفة الإنسانية المجردة من خلال فقه التمكين الذي برع فيه الترابي للدرجة التي وصل فيها المواطن أن يعمل ما يحقق مصلحته الفردية ممثلة في مصلحته الإقتصادية المباشرة أو مصلحة نظامه الحزبي حتى لو كان الأمر يتطلب أن يتجسس الأخ على أخيه أو يضحي به. لهذا لم يعد مصطلح "الطيبة" لدى مفهوم أبناء مصر هو السائد وسط السودانيين بل أصبح منهم من هو أكثر "فهلوة" وإستهبالا لتحقيق مصالحهم الإقتصادية منهم. هذا الواقع في المعاملات لم يقتصر على الأفراد ولكنه أصبح جزءا من قيم ثقافة جديدة تتمدد في المجتمع سرعان ما امتزجت بالثقافة السياسية لتصبح نظرة الفرد السياسية تستند على المكاسب السياسية وإن كانت تغلب عليها النظرة الحزبية بدلا عن مصلحة الوطن كما تقول حالة نظام الإنقاذ في تعامله الخارجي: في وسطه الإقليمي ممثلا في مصر والدولي ممثلا في علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية. ففي سبيل أن يستمر نظام الإنقاذ في الحكم تنازلت قياداته عن أجزاء من أراضيه في شماله الشرقي لمصر ووافقوا على إنفصال الجنوب رضوخا لرغبات الغرب أما بسبب دارفور فقد باع نظام الإنقاذ معلومات استخباراتية عن مسلمين في السودان تحت دعوى محاربة الإرهاب حتى يجنب رئيسه المحاكمة الدولية.[1]

الحديث عن المطامع المصرية في السودان يرجع إلى قدم تاريخ هذه المنطقة من العالم ومع ذلك فإننا سنركز في دراستنا هذه على الفترة التي تلت إستقلال السودان في منتصف العقد الخامس من القرن العشرين. في هذه الفترة والتي توجهت فيه كل دول العالم المستعمرة نحو إستقلالها عملت الحكومة المصرية على فرض إنضمام السودان إليها من خلال دعمها للمنادين بوحدة وادي النيل. فقبل إعلان إستقلال السودان من بريطانيا ومصر كانت هناك فترة حكم ذاتي مدتها ثلاثة أعوام تحددت وفق مشروع الحكم الذاتي الذي اقترحه الحاكم العام على دولتي الحكم الثنائي. أشار مشروع الحاكم العام البريطانى للحكم الذاتى إلى تكوين:
1- مجلس وزراء سودانى يكون مسئولا امام البرلمان ويختار البرلمان رئيس الوزراء الذى يعين الوزراء
2- تشكيل البرلمان السودانى من مجلس نواب من 97 عضو منهم 40 بالانتخاب المباشر و54 بالانتخاب غير المباشر وثلاثة من الخريجين، وكذلك مجلس شيوخ يتكون من 50 عضوا ينتخب منهم 30 من المحليات ويعين الحاكم العام العشرين الاخرين.
جاءت الموافقة المصرية على هذا المشروع بعد إجتماع فى 15 اغسطس 1952 لمجلس قيادة ثورة يوليو في مصر حين أصدر قرارات وافق فيها على مشروع الحكم الذاتي وإعتراف مصر بحق السودان فى تقرير مصيره وفي نفس الوقت دعوة احزاب السودان جميعا ألى مصر للتفاهم معهم حول مشروع  دستور الحكم الذاتى. واصل الجانبان البريطاني والمصري مفاوضاتهما  واتفقا فى 21 فبراير من عام 1953م على إقامة الحكم الذاتى وممارسة السودانيين حق تقرير المصير على أن تقوم الجمعية التاسيسية التى سيتم انتخابها بالعمل على تقرير مصير السودان كوحدة لاتتجزأ وأن تقوم بوضع دستور للسودان بجانب وضع قانون لانتخاب برلمان سودانى دائم وتقرير مصير السودان إما في إتحاد مع مصر أو الاستقلال التام عنها.
وحتى تتحقق لها رؤيتها في أحقيتها في أرض السودان قامت مصر بتوحيد الاحزاب الداعية الى الاتحاد مع مصر بدعوتهم جميعا إلى القاهرة. هذه القوى السياسية هي: الجبهة الوطنية براعاية السيد على الميرغنى زعيم الطائفة الختمية، وحزب الاشقاء بزعامة اسماعيل الازهرى وفصيل آخر من حزب الاشقاء برئاسة محمد نور الدين وحزب الاحرار الاتحاديين. بالفعل توحدت هذه القوى السياسية فى حزب واحد فى نوفمبر 1952 أطلق عليه إسم الحزب الوطنى الاتحادى  وتم اختيار الازهرى رئيسا له ومحمد نور الدين نائبا له. ولم يفت بالطبع الهدف الأساسي في تجميع هذه القوى في حزب واحد حيث نص ميثاق الحزب الوليد على جلاء الانجليز من السودان وقيام اتحاد مع مصر عند تقرير المصير.

بدأت مصر على الفور في تنفيذ ما أتفق عليه وأصدرت قرارا بتكليف الصاغ صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة بالاشراف على تنفيذ تلك القرارات. كان الهدف الأساسي لصلاح سالم هو الوصول إلى إتحاد مع السودان رحلته التاريخية المشهورة الى الجنوب فى ديسمبر 1952 وتنقله بين مديرياته راقصا مع سكان الجنوب عاريا. أما في الشمال فكان لدعمه المادي للحزب الوطنى الاتحادى فى الانتخابات الدور الكبير في فوز الإتحاديين بالاغلبية فى الجمعية التاسيسية. فقد فاز الحزب الوطني الديموقراطي ب 51 مقعدا من 97 مما خوله للحكم منفردا برئآسة إسماعيل الأزهري والذي قام بتشكيل الوزارة من 12 وزيرا بينهم ثلاثة جنوبيين. فى 9 يناير 1954 قامت الوزارة الجديدة باداء اليمين الدستورية أمام الحاكم العام لتبدأ في نفس اليوم الفترة الانتقالية ومدتها ثلاث سنوات كما نصت إتفاقية الحكم الذاتى وفي نفس الوقت إختارت حكومة الأزهري أن يكون يوم الاول من مارس من عام 1954م موعدا لافتتاح البرلمان السودانى. وبطبيعة الحال كان لابد أن يحتفل السودانيون بيوم الإفتتاح الذي دعو له ضمن دول أخرى مصر حيث كان اللواء محمد نجيب على راس الوفد المصرى المشارك فى هذه الاحتفالات. بدا واضحا لحزب الأمة أن المساعدات المادية والإعلامية التي قدمتها مصر بعد توحيدها للتيار الوحدوي كانت السبب المباشر في فوز الحزب الوطني الإتحادي لهذا قرر الحزب إسماع صوته وصوت بقية الشعب الرافض للوحدة، للنظام المصري من خلال مظاهرات منظمة في المطار عند مقابلة اللواء محمد نجيب وهو أمر يكاد يكون حاليا هو المعيار الديموقراطي الأول في معرفة رأي الشعوب. ولكن الحكومة السودانية وقتئذ تجاهلت موقف الإستقلاليين هذا وعملت على إخفاء الحقيقة عن الإعلام العالمي وحولت خروج وفد الزعيم المصري من جانب آخر من المطار مما أدى إلى صدامات دامية بين الأنصار والشرطة كانت بمثابة نقطة تحول في موقف إسماعيل الأزهري والبدء في التحول من فكرة الإتحاد مع مصر. وبذلك كانت تلك الأحداث هي الشرارة الأولى التي اندلعت لتقود شعب السودان للإستقلال.

ظلت حكومة الحزب الوطني الإتحادي بقيادة إسماعيل الأزهري بعد أن إنتهت فترة تلك الأحداث تتأرجح بين الأستقلال التام للسودان وبين الإتحاد مع مصر وإن كانت أقرب في توجهها العام تحو خيار الإتحاد خاصة أن فوزها في الإنتخابات يرجع إلى الدعم المادي والسياسي الذي قدمته مصر. وتحت الضغط الشعبي بسبب الرفض القوي لهذا التوجه من قبل معظم الشعب السوداني في مناطق السودان خارج العاصمة بقيادة حزب الأمة، لم يكن أمام إسماعيل الأزهري إلا أن يقوم بزيارات متواصلة لإستطلاع رأي المواطنين خارج العاصمة فيما يتعلق بموضوع الوحدة مع مصر. في هذه الفترة أيضا بدأ الخلاف داخل الحزب الوطني الإتحادي يتصاعد بين الموالين للسيد علي الميرغني والأزهري ويأخذ منحى آخر يدورحول الاستقلال وليس الاتحاد مع مصر. كان يقود هذا التيار بعض الوزراء في حكومة الازهري على رأسهم خلف الله خالد، وزير الدفاع والدرديري محمد عثمان مستشار السيد على الميرغني. ومن خلال الزيارات التي قام بها الأزهري لمناطق عديدة تأكد له ألا مفر من إعلان الإستقلال تلبية لرغبات الغالبية العظمى من السودانيين الذين قابلوه بهتافات الإستقلال والرفض للوحدة. وهذا ما حدث بالفعل حيث إستجابت الحكومة لرغبة مواطنيها ولا يهم التفسير الذي يقول به البعض وهو أن الأزهري في رؤيته أو دعوته للإتحاد مع مصر كان تكتيكا سياسيا هدفه الحصول على موافقة مصر في القبول بتقرير المصير وبعدها يعلن الإستقلال. وهو كما تلاحظ عزيزي القارئ تصور لا ينسجم مع الواقع فقد ظل الإتحاديون لفترة زادت عن الثلاثين عاما ينادون بهذه الوحدة بل إن الزعيم الأزهري كثيرا ما أشار إلى أن يكون السودان ضمن حدود التاج المصري بينما المنادون بإستقلال السودان خاصة حزب الأمة ظلوا متمسكين بهذا الإستقلال وكان شعارهم "السودان للسودانيين" حتى قال فيه الوحدويون بأنه شعار حق أريد به باطل. المجموعة التي انشقت عن الأزهري كونوا حزبا جديدا سموه حزب الشعب الديموقراطي وبدأوا بالإتصال بحزب الامة الداعي للإستقلال ورفضوا أي اتحاد مع مصر كما كان يعمل الازهري. الأمر الذي يهدد وجوده خاصة في ضوء بعض التكهنات التي تقول بتقارب بين السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني والذي بالفعل قد حدث حينما اجتمعا وأصدرا بيانا مشتركا جاء فيه "يسعدنا ان نعلن تصميمنا القوي لنقف متحدين من اجل مصلحة السودان، وكل ما يحقق له السعادة والحرية والسيادة الكاملة لشعبه". وهو لقاء خاف منه الأزهري أن يطيح به قبل أن يربط إعلان الإستقلال بإسمه بعد أن تأكد له إمكانية إعلانه من داخل البرلمان. لهذا فإن مواقف حزب الأنة الرافضة لأي نوع من الإتحاد مع مصر بجانب الصراع بين الأزهري من جانب والمنشقين عن حزبه والذين هم في الأساس موالين للميرغني خاصة ميرغني حمزة المقرب جدا من السيد علي الميرغني والذي أصبح منافسا خطيرا للأزهري، أدى إلى أن يغير الأزهري رؤيته من الإتحاد مع مصر إلى الإستقلال التام. من هذا المنطلق نستطيع أن نقول إن الخلاف بين الأزهري والسيد على الميرغني لم يكن خلافا فكريا فلسفيا كما يصوره البعض والدليل رجوع الأزهري مرة أخرى إلى أحضان الطائفية وفي ظرف بدت فيه العلاقة بين الحكومة السودانية والمصرية تشهد تدهورا خطيرا حين بدأت تتصاعد مشكلة حلايب مرتبطة بمفاوضات مياه النيل والمساعدات الأمريكية. 
نواصل في الحلقة القادمة الاستقلال واستمرارية الخبث السياسي المصري لزرع الفتنة بين أحزاب السودان