6th of April 1985 in Sudan

6th of April 1985 in Sudan

سودانيات

سودانيات هو منبري لمناقشة ومعالجة قضايا السودان مع السودانيين ومن هو قادر على فهم اللغة العربية. وما أطرحه من رأى على هذا المنبر هو رأى أنا شخصيا لايمكن أن يحاسب عليه أحد آخر. أما مبادئ المنبر فإنها تقوم على حرية الرأى،إحترام الرأى الآخر، الموضوعية، تحرى الدقة وتقصى الحقائق.

الأحد، 19 مارس 2017

جُوبا مالك علي

جُوبا مالِك عليّ

سيف اليزل سعد عمر

كل مدينة سودانية ولها سحرُها الخاص وكلُ مدينةٍ ولها حنين مختلف من أهلِها وزُوارِها. فَلو شفت مرة (جبل مرة)، يعاودك حنين طول السنين تتمنى تانى تزوره مرة. ونمشي (لتوتيل) نزورها والجبل نعسان خدارو، حتي السواقي بكت معاي شاركتنى في وداع قطارو. في (مدنى) يا أخوانى لي محبوب جفانى. (وكسلا) أشرقت بها شمس وجدي. أرض الحبايب رمز المحنة. (كسلا) روحك برضك لي حبيبة عشان ما فيها روحي كيف اقدر أسيبها. والثغر الباسم عروس البحر يا حورية يا (بورسودان) يا حنية قلبي تائه في حبك ليكي سلامي وأحلي تحية. وصبا دمعي وأنا قلبي ساكن حار فراقك نار يا (سواكن). ونسائم (عطبرة) الحلوة تهدينا وترسينا نقابل فيها ناس طيبين فراقهم كان مبكينا. ويا جمال النيل و (الخرطوم) بالليل وانا (أم درمان) و (أم در) يا حبيبة. ومكتول هواك يا (كردفان)، مكتول هواك أنا من زمان. وفيك يا (مروي) شفنا كل جديد، فيك شفت عيون لعبو بي شديد. الليلة والليلة (دار أم بادر) يا حليلا بريد زولي. ومن (رهيد البردي) لوحة.. ومن نخيل (الباوقة) طرحة ومن (مريدي) السمحة لمحة. وغيرها وغيرها ما اغانى الشوق والحب والحنين.

في كل هذا الكم الهائل والعشق اللآمتناهي للمدن والارياف السودانية كان لجُوبا مكانة خاصة في نفوس أهلها وعامة الشعب السودانى الشمالي والجنوبي منهم علي حد سواء. العلاقة العاطفية والوجدانية لمدينة جوبا تأثرت بأحداث وفترات تاريخية جسدتها الأغنيات السودانية في وصف وعشق مدينة جوبا. الفترة الأولي هي فترة الحرب الأهلية بين الجنوب والشمال والثانية هي فترة ما بعد إتفاقية أديس أبابا و الثالثة فترة الحرب الأهلية الثانية من بداية الثمانينات والرابعة فترة ما بعد إتفاقية نيفاشا والخامسة والاخيرة فترة جوبا بعد الإستقلال أو الإنفصال. القاسم المشترك في كل هذه الفترات هي الحرب اللئيمة واللعينة التى أنهكت مدينة جوبا وزرعت الفرقة والكراهية والشتات بين أهل السودان. الفترة الرابعة هي فترة الهوس الديني ومشروع الإنقاذ اللاحضاري والذي كان حصاده إنفصال أو إستقلال جوبا عن الخرطوم. جوبا الوطن المختلف عليه مات من أجلها أبناء الجنوب والشمال. إنها فترة زيف الشعارات والخداع وتسميات زائفة كمتحرك الخبر اليقين، عرس الشهيد، أمراء الفردايس والكتيبة المظفرة، وطلائع بدر وغيرها من الشعارات.  

من الذي أنشأ مدينة جوبا؟ سؤال وقفت عنده كثيرا وبحثت عنه في عدد من المراجع. خلاصة بحثي أن  جوبا مدينة إنشئت علي أطماع الإستعماريين لفرض السيطرة علي تجارة الرقيق والموارد المائية والطبيعية الأخري. ففي كتابات المبشرين المسيحيين آمثال نالدر لم اجد ذكري لمدينة جوبا في المسح القبلي الذي أجراه في محافظة مونقلا في عام ١٩٣٧. فقد ذكر فيه كبويتا وتوريت، ياي ومريدي، قوندوكرو ولادو وأحصي قبائلها إحصاء دقيقاً. إعتقادي أن جوبا لم تكن مدينة كبيرة او ذات أهمية حتى ذلك التأريخ رغم أنها كانت موجودة او لم تكتسب شهرتها بعد كمركز سياسي إستعماري. في ديسمبر من عام 1936 زار كارمايكل كموظف في هيئة الإرصاد مدينة جوبا في رحلة نيلية من مدينة كوستي. في ذلك الوقت كانت جوبا تابعة لمديرية مونقلا. إفتتحت الكنائيس التبشيرية أول مدرسة في جوبا في عام 1920 وفي عام 1922 أصبحت جوبا محرمة علي الجلابة حسب قانون المناطق المقفولة الذي أعلنته السلطات الإستعمارية البريطانية من مديرية مونقلا.

الفترة الاولي تمثلها أغنية (جوبا مالك علي) رغم الجدل الذي يدور حول أصل الإغنية. فهناك من يري أن الأغنية أساسا لم يكن المقصود منها مدينة جوبا بل كانت غزلا في أحد غزلان أقباط المسالمة إسمها قوبا ذات حسن وجمال. ماهو مؤكد أن الشاعر الراحل عبد الرحمن الريح كتب قصيدة في الراحلة المطربة منى الخير بإسم منى عمري وزمانى وهو نفس القالب الشعري واللحنى لأغنية جوبا مالك علي. وعلي الرغم من أن جوبا مالك علي تغنى بها عمالقة الفن السودانى بشقيه الحديث والشعبي كالجابري ومحمد احمد عوض ومحمود علي الحاج دون الجزم بملكيتها لأحدهما إلا انها إغنية نشأت وتطورت وإنتشرت في وجدان الشعب السودانى. وبما ان الاغنية كان منشأها في المركز السياسي و الجغرافي كتعبير عن ما يدور في هامش السودان من حروب ودمار فهي  تعبير شمالي إما عن رحلة موت ابدية بسبب الحرب او رحلة لمدينة بعيدة في الهامش محفوفة بالمخاطر وطول غياب.

الفترة الثانية عبر عنها الاستاذ الفنان النور الجيلاني بأغنيته (مسافر جوبا) وهي من كلماته وألحانه. وهي فترة ما بعد إتفاقية أديس أبابا،  فترة الفرص الضائعة لبناء سلام ووحدة حقيقية بين جوبا والخرطوم. قدم النور الجيلانى وصفا رسخ في خيال الملايين الذين لم يروا جوبا ابدا إلا في نشرات الأخبار من فرع التوجيه المعنوي للقوات المسلحة وجهاز تلفاز محدود الإنتشار. في ذلك الوقت   جوبا مدينة ترد الروح، موكب زهور في مهرجان عيد الصبا. جوبا روعة زهور رونق إختلاف خضر الربا. لكن من يتغني لجوبا من سكانها وأهلها؟ من يحدثنا عن الآمها وجروحها أيام الحرب الأهلية؟ من يبادلنا أغنية حنين من جوبا إلي توتيل وجبل مرة؟ في نفس الفترة كانت لجوبا فنانوها وموسيقاها. كانت المدينة تطرب علي إيقاعات الجالوه والبامبنغ لفرقة جاز الرجاف وفرقة سكايلاركس في صالة نكوري ونوادي المدينة الليلية (١). لكن لم تكن الخرطوم تسمع.  لقد نجحت سياسية المناطق المقفولة ايام الإستعمار البريطانى من فصل الجنوب عن الشمال. وسار علي نفس النهج النخبة الشمالية والجنوبية علي حد سواء. وهو حصاد جنيناه بإنفصال الشمال والجنوب ومن بعده إستمرار الحرب حتى صارت جوبا أسوأ من تاريخ كيغالي في حروب الإبادة الجماعية.

ثم جاءت الفترة الثالثة عهد التكفير والهجرة إلي جوبا للجهاد في أهلها والتى حشد لها المشروع الحضاري الإنقاذي الحناجر بزيف الشعارات وأهازيج فرق الصحوة واعلام الدفاع الشعبي وبرنامج ساحات الفداء. جوبا كانت أرض المعركة لمتحركات عسكرية و أرتال من الملشيات مختلفة الأسماء والاهداف فهي احيانا لواء القعقاع  وأحيانا صيف العبور وأخري الأمطار الغزيرة.  بينما كانت الإغاني والإناشيد الجهادية تصدح في مكبرات الصوت وقنوات الإذاعة والتلفزيون كان الرصاص يحصد اراوح السودانيون في جوبا. تحدث أحد مطربي الإنقاذ قائلا: أنا كنت أعتبر نفسي الفنان الأول المشجع للإنقاذ وشاركت في تثبيت أركانها أنا الذى أرسيت الأغنية الجهادية المتفردة وكنت مؤمنًا بمشروعها الحضاري وبطرحها السياسي وأنا الذي غنيت «الطاغية الامريكان» ثم اغنية «كل شي لله» ونموت شهداء و أغنية دولة الاسلام فتية وحقيقة انا عانيت كثيرًا في ذلك ولكن الانقاذ لم تخذلنا فقد حققت الكثير من الانجازات وانا في الغربة فخور بذلك" (٤). ختم ذلك العهد الجهادي الضال بأنشودة جهادية إسمها "جوبا رائعة" لفرقة الصحوة. لم تجد الأنشودة من يهتم بها فقد جاءت في وقت إنكشف فيه الخداع والزيف وأعراس شهيد كاذبة ثم إنفصلت جوبا عن الخرطوم. عقب الإنفصال او الإستقلال لم أسمع أو أري أنشودة جوبا رائعة في القنوات الإعلامية الإنقاذية. فقد مثلت تلك الإنشودة زيف وخداع الإنقاذ التى رقص دهاقنتها علي أنغام أعراس الشهيد إحتفالا بإراقة دماء الشعب السودانى في حرب من أجل مشروع لا حضاري. 

كتب كريستوف شاتلو مقالا لصحيفة لوموند الفرنسية نشرته صحيفة التايم يوم الأحد 9 يوليو  2011 ، كتب يصف مدينة جوبا:
حبل مشدود بعرض الطريق في سوق قومبو يحدد المدخل لمدينة جوبا. صف طويل من الشاحنات يعلوها الغبار والسخونة في انتظار لعبور الحاجز الذي يحرسه عدد قليل من رجال الشرطة. دجاج برازيلي، ثلاجات صينية، سجائر كينية، خضروات يوغندية و أدوية هندية. ترتفع سخانة البضائع من شدة الحرارة. دايفيد قرايسلي ممثل الامم المتحدة في جوبا يقول: "في عام  2005 كنا بنجيب البيرة بالموتر من يايي، حوالي 120 كيلومتر جنوب مدينة جوبا بالقرب من الحدود مع الكونغو" كان السبب هو ان الدراجات البخارية هي التى كانت تستطيع ان تشق طريقها في الطرق المزروعة بالألغام خلال الحرب الأهليه بين 1983  و 2005.

بعد حوالي سنتين ونصف من إستقلال أو إنفصال مدينة جوبا وقبيل أعياد الميلاد المجيد، 15 ديسمبر 2013، سال الدم بين أبناء الدولة الوليدة. إستهدف  مواطنو جوبا حسب هويتهم القبلية. ما حدث كان أشبه بالمجازر الرواندية بين الهوتو والتوتسي فقد كانت بين الدينكا والنوير. عدم المقدرة علي إجابة سؤال إسمك منو؟ (إنشولدي) بلغة الدينكا كان كافيا لتصنيفك بأنك نويراوي وسببا كافيا  لتصفيتك في مجاذر جوبا. وحتى تكتمل صورة مشابهة للمجاذر التى جسدها فيلم هوتيل رواندا مع ماحدث في جوبا ففقد لجأ اكثر من 1600 مواطن الي مكاتب الامم المتحدة في المدينة طلبا للحماية من المذابح. تماما مثلما حدث في كيغالي. لكنهم لم يجدوا الحماية وما حدث في فندق ترين أسوأ مما حدث في فندق رواندا. في نهاية عام ٢٠١٥ تغني أحد شباب جنوب السودان بأغنية  (جوبا كربو) او (جوبا خربت). تقول بعضا من كلمات الإغنية:

ألفين وستة جوبا كانت بلد راحة
مافي زول إتازي
ناس كان بنوم برا للصباح
مجرمين كانوا مافي الزمن داك
لكن هسا دا المشكلة
الليل كان جا دا المشكلة
كلام ده بوقف متين
جنوبي مع جنوبي بكاتل بعضو لييييه
جوبا كربو
مجرمين مليان مابخافوا ربنا

كتب د. لاكو جادا كواجوك عن ما حدث في تلك المجذرة قائلا:
"للمعمرين من سكان جوبا أعادت تلك الاحداث للأذهان ما حدث في اغسطس من عام  1965 عندما قام الجيش السودانى بمجذرة ضد مواطني جوبا. تم إصطياد المواطنين من بيت لبيت وقتلهم بالرصاص او حرقهم داخل بيوتهم. هناك تشابه بين ما حدث في ذلك الوقت وبينما حدث في كيديلي ومية سبعة في ديسمبر 2013 . الفرق كان أن المجرمين في 1965 كانوا من الجنود الموندوكورو ضد كل مواطني جنوب السودان في جوبا وليست قبيلة واحدة. بكل المقايس ما حدث في منتصف ديسمبر  2013  كان محيرا للعديد من المواطنين والمراقبين. والسبب، إذا كان هناك أي وصف دقيق لكارثة تسبب فيها الانسان في جنوب السودان، لابد ان يكون ما حدث في ذلك اليوم. ليس هناك منطق او عقلانية تبرر ما حدث".

وكأنما كتب الشقاء والموت والحزن علي جوبا وما أشبه ما حدث قبيل أعياد الميلاد في 2013 بما حدث عشية ليلة الانفصال او ليلة الإستقلال في يوليو 2016. فبعد سنتان ونصف من كارثة ديسمبر تشهد جوبا كارثة مشابهة في يوليو رموزها نفس الشخوص واسبابها نفس الاسباب، الصراع علي كرسي السلطة علي جماجم الجنوبيين والجباويين من النوير والدينكا علي السواء.  مرة اخري يهرب المواطنون للإحتماء بقوات الامم المتحدة. تصادف ان كانت رئيسة الإتحاد الإفريقي  في العاصمة الرواندية كيغالي عندما صرحت قائلة حول ما حدث في جوبا ”ما يجري في جنوب السودان غير مقبول إطلاقا". عاشت جوبا أياما أشبه بالمذبحة الرواندية عندما لجأ النساء والأطفال لقوات الامم المتحدة لحمايتهم في "المليون تل" خلال المزبحة الرواندية في كيغالي في ابريل ١٩٩٤.  إمتلات شوارع جوبا بأكثر من ثلاثمائة جثة في صراع مراكز القوي بين كير ومشار. وتحطمت احلام الآلاف من سكان المدينة الذين عادوا لها من معسكرات النزوح منزوعي الجنسية والهوية  من مدن الشمال. تحطمت احلامهم في الإحساس بالاستقرار في عاصمة الدولة الجديدة ليعودوا مرة أخري لمدن الشمال غرباء كما عاشوا وكانما كتب عليهم الشقاء.  في (المليون تل) قدم مدير الفندق بول روساسابقينا الحماية للتوتسي الذين قصدوا الفندق خوفا من الذبح والقتل من مليشيات الهوتو الإنترهوامي.

حوالي مائة من الجنود المدججين بالسلاح يدخلون فندق او معسكر (تيرين) في جوبا يضربون كل من كان بالمعسكر وينهبون ممتلكاتهم. يجمعون ما بالمعسكر من نساء ثم يتحلقون حولهن ويتابدولون إغتصابهن لأكثر من إثني عشرة ساعة. رغم إستغاثتهن لم تتمكن القوات الأممية من حمايتهن علي الرغم من قربهم من (تيرين). كانوا مشغولين بحماية انفسهم فقد فقدوا إثنان من زملائهم من القوات الصينية. حاول أحد زملائهم إغاثتهن لكنه قتل رميا بالرصاص أمام أعينهن. لم يختلف المشهد في جوبا عن المشهد كيغالي رغم الفارق الزمني. في جوبا كان سال الدم بين النوير والدينكا وفي كيغالي سال الدم بين الهوتو والتوتسي.

واليوم يضرب الجوع والرصاص والبؤس مدينة حلم الجنوبيين والشماليين. الآلاف يبحثون عن مأوي وملجأ. والعالم ينظر بعيدا عن هذه المأساة. جوبا مالك علي؟!!

         

South Sudan: A hidden tour of Juba the newest world capital.
Christophe Chatelot.  le Monde Saturday 9th July 2011.

South Sudan: the State that fel apart in a week. Daniel Howden. The Guardian. 23 December 2013.

Thoughts on the December 2013 massacres in Juba City.
Dr. Lako Jada Kwajok. 19 December 2015.

عبد الكريم الامين أحمد. إلي روح السلطان (بابا أندرية) سلطان الباريا العظيم. ١٢ فبراير ٢٠٠٨. sudanray.com
(٤) محمد بخيت. الإنقاذ حاربتني ولن أردد الأغنية الجهادية. الإنتباهة . ٢٩ أغسطس ٢٠١٢

Nalder L.F. 1937. Atribal survey of Mongalla Province. By memebers of the Province staff and chruch Missionary society. Oxford university press.

من دراسة للماجستير لمين بومشيخ BUMSHIK MIN. جامعة بوسطون. تكوين الهوية السياسية  في جنوب السودان من الخمسينيات إلي الستينيات وتاثير التعليم الإرساليات المسيحية. 2016 نقلا عن فيرنر Werner

الاثنين، 13 مارس 2017

الأسرى فى موازنات الصراع بين الحركات ولإنقاذ

الأسري في موازنات الصراع بين الحركات المسلحة والإنقاذ

شاهدنا في الإسبوع الماضي إطلاق سراح الأسري من جانب الحركة الشعبية والإنقاذ أدخلت الفرح والسرور علي أهاليهم فبعضهم  وكأنهم قد بُعثوا من الموت بعد أن شاع كذبا ونفاقا وتضليلا أنهم إستشهدوا وماتوا. صفقة تبادل الأسري التى تتم بين الحركات والإنقاذ في ظاهرها إبداء للنوايا الحسنة و رمزية للرغبة في التفاوض لإيجاد حل للمشكلة وفي باطنها وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية في العملية التفاوضية. ما يصعب متابعته في ملف الأسري طيلة سنوات الإنقاذ هو علي ماذا بُنِيت مطالب إطلاق سراح الأسري وكيفية الإلتزام بما أُتفق عليه أو ما يترتب عليه عملية إطلاق سراح الأسر؟ تعامل نظام الإنقاذ مع الأسري تعامل يخالف الأعراف والقوانين الدولية وهو ما إعترفت به الإنقاذ صراحا بنهج "أكسح أمسح ما تجيبوا حي وما تعمل لينا عبء إداري" أو إنكار عدم وجود معتقلين وأسري. وفي ٢٠٠٣ وفي مدينة الإبيض أصدر البشير توجيهاته لمليشيات الدفاع الشعبي أنه لايريد أسيرا أو جريحا. علي النقيض من ذلك تماما التزمت الحركات المسلحة بالقانون الدولي في معاملة الأسري. تاريخيا أكبر عملية لأطلاق سراح الأسري أعلنها ونفذها الراحل جون قرنق عقب توقيع إتفاقية نيفاشا وبلغ تعداد المفرج عنهم أكثر من ألف أسير.

شاهدنا إعتقالات قوات حركة العدل والمساواة بعد فشل عملية الذراع الطويل التى إستهدفت معقل الإنقاذ. وهي عملية شجاعة وقوية وضّحت مدي إيمان وعزيمة المرحوم الشهيد خليل إبراهيم. فقد كانت تجسيدا فعليا لشعار حركة العدل والمساواة في مؤتمرها السابع والذي يقول " كل القوة الخرطوم جوة". وكانت كذلك فى عملية عسكرية قوامها أكثر من مائتي عربة تاتشر محملة بالاسلحة والرجال قطعت مسافة ألف وستمائة كيلومترا عبر طرقا صحراوية وعرة من غرب السودان حتى خارت قواها علي الضفة الغربية من النيل الأبيض في محاولة لعبور النهر للوصول إلي قلب الخرطوم. إعتقلت الإجهزة الأمنية للإنقاذ أكثر من مائة وخمسون فردا من قوات العدل والمساواة من بينهم عبد العزيز نور عشر والذي أطلق سراحه الأسبوع الماضي  بعد فشل عملية الذراع الطويل في مايو ٢٠٠٨. منذ ذلك التاريخ، إذا إستثينا فترة ما قبل نايفاشا، وقع في يد الإنقاذ كرت هام جدا إسمه كرت الأسري إستخدمته لاحقا في شق وحدة الحركات المسلحة وورقة ضغط في جولاتها التفاوضية معها. معتقلي عملية الذراع الطويل بالإضافة لمعتقلي معركة قوز دنقو يمثل أكبر مجموعة من الأسري من الحركات المسلحة المعارضة للإنقاذ.

بعد إعلان حوار الوثبة والذي تحاول الإنقاذ من خلاله إحكام قبضتها وضمان إستمراريتها بتجريد الحركات العسكرية من سلاحها عبر الألية الإفريقية ورعاية المجتمع الدولي، تم عدد من التفاهمات السرية والعلنية ومناشدات لإطلاق سراح الأسري لدي الجانبيين. بإعتبار ان عملية إطلاق سراح الأسري  يمكن أن يكون بادرة نوايا حسنة  لتهيئة المناخ تجاه الوصول لحل سياسي عن طريق التفاوض. وعلي الرغم من أن واحدة من شروط نداء السودان والذي تنضوي تحته مجموعات الحركات العسكرية او ما يسمي بالجبهة الثورية، هو إطلاق سراح المعتقلين كشرط من شروط تهيئة المناخ إلا أنه لم يكن من بينهم دعوة صريحة لإطلاق سراح أسري الحرب. وفي كثير من الإحيان  يتم الإشارة لولئك المعتقلين السياسيين بالإسم دون أن يذكر  من بينهم أسم من أسماء أسري الحرب. فتحت بعض المجموعات التى تحسب علي النظام كمجموعة سائحون ومن يسمون أنفسهم بمجموعة إسناد الحوار وبعض قادة الصوفية نوافذ للتواصل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وحركة العدل والمساواة لفتح ملفات الأسري. مجموعة سائحون وإسناد الحوار كان دافعهم لإطلاق سراح الأسري لدي الحركة الشعبية هو عدم التخلي عن رفقائهم من مليشيات الدفاع الشعبي المخدوعين تحت مسمي الدبابين والمجاهدين. هؤلاء كانوا يرون أنهم قد خُدعوا بمشروع الإنقاذ الزائف والذي إنتهي بإحتكار إخوانهم في المؤتمر الوطني للسلطة والسكن في قصور كافوري والذين وجدوا أنهم كانوا وقودا لذلك ممثلا في زملائهم الأسري لدي الحركات المسلحة المعارضة. كان اول لقاء بخصوص إطلاق سراح الأسري جمع الحركة الشعبية وسائحون في اديس أبابا في الفندق الذي ضم قوي السودان مع تابو إمبيكي. ففي بيان قصير بعد أيام من تلك المفاوضات أصدرت الحركة الشعبية بيانا قالت فيه أنها وإستجابة لمناشدة من سائحون ستقوم بإطلاق سراح عدد من الأسري المحتجزين لديها. بالطبع كان للحركة الشعبية حساباتها من تلك الخطوة والتى لم ولن تفصح عنها سوي ما أعلن عنه بأنه إستجابة لنداء من مجموعة سائحون. علي أية حال نعتبرها خطوة إيجابية في حد ذاتها وعلي طريقة قدم السبت عشان تلقي الأحد او خطوة في تهيئة المناخ للحوار مع الإنقاذ.

رجع ممثلوا سائحون للخرطوم  وهم يطيروا من الفرح بالوعد الذي وعدتهم به الحركة الشعبية ولكنه وضع عليهم عبئا لإحداث إختراق داخل حزب البشير الذي تتحكم فيه القبضة الأمنية والتى ايضا تتحكم في مسارات حوار الوثبة وفتح مسارات الإغاثة الإنسانية.
بالفعل اوفت الحركة الشعبية بوعدها وأعلنت عن أطلاق سراح عشرون معتقلا. وبالفعل إستلم الصليب الأحمر الأسري العشرون وكانت الطائرة التى تقلهم إلي الخرطوم علي أهبة الإقلاع إلا أن الإنقاذ رفضت إستلامهم في اللحظة الأخيرة. الأسباب التى أعلنت في ذلك الوقت لم تكن مقنعة للمراقب والمتابع لهذه العملية. السبب الذي رشح في أوساط الإنقاذ هو عدم مشاركة جهاز الأمن في عملية التفاوض والإستلام. سبقت عملية إطلاق سراح الأسري زخم إعلامي كبير كان عاملا ضاغطا علي نظام الإنقاذ. خاصة وان من بين الأسري من إتضح أنهم علي قيد الحياة خلافا لما أعلنته مليشيات الإنقاذ أنهم شهداء شبعوا موت.

نرجع بالزمن لنري ماذا فعلت الإنقاذ بأسري العدل والمساواة من عملية الزراع الطويل المعتقلين منذ مايو ٢٠٠٨. إستخدمتهم الإنقاذ في خلق الفتنة والشك بين الحركات الدرافورية لإضعافها و تفتيت وحدتها لكسر شوكتهم العسكرية. مستخدمة في ذلك الخلافات القبلية. بعد عامين تقريبا من عملية الذراع الطويل وقعت الإنقاذ مع حركة العدل والمساواة علي إتفاقًا إطاريا في الدوحة نصت الفقرة الثانية منه علي إصدار عفو عام بحق أعضاء حركة العدل والمساواة وإطلاق سراح أسري الحرب من كلا الجانبين. إلتزمت حركة العدل والمساواة بالإتفاق الإطاري وأطلقت سراح ما لديها من الأسري. لكن تنصلت الإنقاذ مما إتفقت ووقعت عليه رغم إعلان رأس الإنقاذ العفو عن ١٠٦ من معتقلي الحركة. بعد مرور ثلاثة أعوام من الإتفاق الإطاري لم يتم إطلاق سراح الأسري سوي ٥١ منهم فقط لتواصل الانقاذ في التسويف والمساومة لتفتيت وحدة الحركة وتماسكها. وإمعانا في عدم الإلتزام بالإتفاق الإطاري مع الحركة أصدرت الإنقاذ حكما بالإعدام علي إبراهيم الماظ دينق نائب رئيس الحركة وستة آخرون (وهو بالطبع لم يشمله عفو الإتفاق الإطاري). وعلي مدي فترات الإعتقال مارست الإنقاذ حربا نفسيه علي إبراهيم الماظ وحركته بتحويله لزنزانة الإعدام تمهيدا لإعدامه ثم العدول عن تنفيذ الحكم في اللحظات الأخيرة. إبراهيم الماظ دينق تم إعتقاله فى يناير ٢٠١١ في غرب دارفور وقد كان كادرا نشطا في المؤتمر الشعبي الذي إستقال منه بعد ثلاثة أشهر من عملية الذراع الطويل لينضم لحركة العدل والمساواة.

قُبيل معركة قوز دنقو  وفي مارس ٢٠١٥ أطلقت الأنقاذ سراح خمسة من أسري عملية الذراع الطويل لصالح فصيل منشق عن حركة العدل والمساواة وواحدا من الفصائل الوقعت معه علي إتفاقية سلام. وبعد معركت قوز دنقو ملأت الإنقاذ سجونها بمزيد من أسري الحرب بأسر ٣٤٠ أسيرا من قوات العدل المساواة في أبريل ٢٠١٥. مع إزدياد أعداد الأسري  زادت أهمية ورقة الأسري في اللعبة السياسية بين الحركات والإنقاذ. وأن اية مبادرة لإطلاق سراح مجموعة من الأسري كانت تأتي في إطار إبداء النوايا الحسنة لتهيئة مناخ ملائم للحوار وإحلال السلام. ولم تتم في إطار عملية تبادل للأسري أو كورقة ضغط لتقديم تنازلات في جولات التفاوض بين الإنقاذ ومعارضيها من حملة السلاح. في سبتمبر ٢٠١٦ أعلنت حركة العدل والمساواة الإستجابة لمناشدة من أحد شيوخ الصوفية وإطلاق سراح المعتقلين لديها. الرسالة كانت واضحة أن الحركة لا مانع لديها للجلوس لحوار متكافئ مع الانقاذ وأنها تنتظر من الإنقاذ أن يقابل ذلك بإطلاق جميع معتقلي الحركة. جاء الرد سريعا من رأس الإنقاذ في احتفال في الفاشر حضره الرئيس التشادي والأمير القطري أعلن فيه إطلاق سراح بعض المعتقلين صغار السن الذين أعتقلوا في قوز دنقو.

في مفاوضاتها مع الالية الإفريقية و الولايات المتحدة لم تتعرض الحركة الشعبية لإطلاق سراح أسري الحرب في سجون الإنقاذ. كما لم تطالب الإنقاذ الحركة الشعبية بإطلاق سراح أسراها لديها. ما كانت تتطالب به الحركة مع حلفائها في نداء السودان هم المعتقلين السياسيين من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى والمدنيين والذين كانت تسميهم بأسمائهم في بياناتها. في الرابع من مارس أعلنت الحركة عن إطلاق سراح ١٣٠ من الاسري بوساطة من موسيفينى كضامن لجانب الإنقاذ بتمثيل من نجودي قدح الدم في عملية التسليم. خطوة إطلاق الأسري هذه جاءت في إطار إبداء النوايا الحسنة كما صرحت الحركة بذلك وبالتالي الوفاء بالإلتزام لمجموعة سائحون لإقناع النظام بتقديم تنازلات من جانبه أيضا بخصوص خارطة الطريق وفتح المسارات الأنسانية عن طريق إستخدام نفس الممر الخارجي الذي إستخدم في عملية إطلاق الأسري. وبدلا أن تقابل الإنقاذ مبادرة الحركة الشعبية بتقديم تنازلات فيما يخص فتح مسارات الإغاثة الأنسانية او شروط تهيئة الحوار، أطلقت الإنقاذ سراح ٢٥٤ معتقلا من حركة العدل والمساواة وألحقتهم بستة آخرون من حركة تحرير السودان جناح مناوي.
تفاجأت الحركة الشعبية بتلك الخطوة واعربت عن دهشتها في بيان أصدرته في ١٠ مارس عندما لم تجد أسراها من ضمن المفرج عنهم  وعلي رأسهم عمر فضل تورشين. كما أنها أيضا تفاجأت من عدم إلغاء النظام حكم الإعدام علي قادة الحركة الشعبية في إطار مبادرة النوايا الحسنة. هذه هي طبيعة وإستراتيجية النظام وهو أنه غير جاد في موضوع الحوار و يستخدم ملفات الأسري من منظور موازنات قبلية وسياسية لها تأثير مباشر علي العلاقة بين مكونات المعارضة السودانية المسلحة والمدنية.

لازالت هناك العديد من الأسئلة التى تحتاج لإجابة: هل بادرت الحركة الشعبية والعدل والمساواة بلإفراج عن المعتقلين من أجل إبدا حسن النوايا وتهيئة المناخ للدخول في حوار مع الإنقاذ؟ أم إرضاء ونزولا لرغبة مجموعة سائحون وقادة الصوفية كوسيط لإقناع الأنقاذ بتقديم تنازلات لمصلحة الحركات المسلحة؟ هل ملف الأسري كان عائقا او شرطا لفتح مسارات الإغاثة الإنسانية؟ وهل أطلق النظام سراح الأسري لمقابلة مبادرة الحركات المسلحة من منطلق حسن النوايا أم من أجل تجميل صورته أمام المجتمع الدولي خلال فترة السماح لرفع الحصار الإقتصادي؟ ماذا كانت تنتظر الحركة الشعبية من النظام مقابل إطلاق سراح الأسري لديها وهل خابت ظنونها فيه بانه لم ينفذ ما وعد به أو ما توقعت أن ينفذه؟

سيف اليزل سعد عمر
إستكهولم السويد