6th of April 1985 in Sudan

6th of April 1985 in Sudan

سودانيات

سودانيات هو منبري لمناقشة ومعالجة قضايا السودان مع السودانيين ومن هو قادر على فهم اللغة العربية. وما أطرحه من رأى على هذا المنبر هو رأى أنا شخصيا لايمكن أن يحاسب عليه أحد آخر. أما مبادئ المنبر فإنها تقوم على حرية الرأى،إحترام الرأى الآخر، الموضوعية، تحرى الدقة وتقصى الحقائق.

الأحد، 13 أغسطس 2017

لوحات إريترية (3): الساهو الأساوِرتة من مُصوع للقضارف

لوحات إريترية (3): الساهو الأساوِرتة من مُصوع للقضارف

سيف اليزل سعد عمر

أول ما يُشدك لتراث أغانى الساهو هو قوة الاداء الغنائي بما يشبه إيقاعات المارشات العسكرية والأداء الرجالي للرقص الجماعي مع قفازات فى الهواء مع تبديل سريع بين القدم اليمنى واليسري. هذه القفزات تشابه العرضة للمجموعات القبلية فى شمال السودان . الفارق هو ان عرضة شمال السودان بين رجُلين فى حين أن عرضة الساهو جماعية. كلما إستمع لأغانى الساهوأتذكر مقولة "ضرب طبول الحرب". وربما مرد ذلك إلي تأريخ الساهو الملئ بقصص المعارك والحروب التى خاضوها خلال مئات السنين ضد الغزاة والمستعمرين فى أراضيهم بمرتفعات إريتريا فى سمهر وحماسين ومنخفضاتها فى بركا وسراى . ما أكتبه عن الساهو فهذه القطعة هى تجربة مخالطة لسنوات عديدة لبعض الأصدقاء الساهو وأحد بُطُون هذه القومية وإسمهم الأساورته.

الساهو واحدة من قوميات إريتريا التسعة يتواجدون فى الإراضى الزراعية والجبلية والرعوية المشتركة بين إرتيريا وإثيوبيا وجيبوتى والسودان فى تداخلات ومصاهرات إجتماعية مع قوميات وقبائل أخري. فهناك من الساهو من يتحدث بالتقرينجية وهناك من يتحدث الساهوية ومنهم من يتحدث التقري والعفرية. اللغة الساهوية تنتمى لمجموعة اللغة الكُوشية وتشابه اللغة العفرية فى الكثير من مفرداتها وطريقة نطقها (1). وتتكون قومية الساهو من مجموعات قبلية عديدة، وكل قبيلة تنقسم إلي بُطُون صغيرة تشابه تفاصيل القبائل الصومالية. وهي منتشرة من جيبوتى وإريتريا شرقا مرورا بإثيوبيا وشرق السودان حتى نهر النيل غربا. وأصل كلمة ساهو غير معروف رغما عن الإجتهادات هنا وهناك. وينطق ويكتب إسم قومية الساهو بطرق مختلفة فى لغات التقري والتقرينجية. فأحيانا تكتب سِيهو وأحيانا سوهو أو سُهُو (6)

الساهو من المجموعات الكُوشية التى إستوطنت تلال البحر الأحمر خلال هجرات قديمة فى حوالي عام ٢٠٠٠ قبل الميلاد. وتقول الروايات المسجلة فى إحد المراجع أن أصولهم ترجع لأربعة قبائل كوشية هى السابورا، كابوتا،برادوتا  و إيدا(2). وفى رواية أخري سبعة قبائل.

يعرف عن الساهو أنهم محاربين أشداء ذو بأس وشجاعة، حاربوا وقاوموا الإستعمار الإثيوبي والإيطالي بشراسة. وكانت تستنجد بهم القبائل الأخري لحمايتهم من هجمات الشفتة الإثيوبيين ومجرمى الإستعمار الطليان والأتراك. وقد كبد الساهو الإثيوبيين والطليان خسائر فادحة فى معارك عديدة وفرضوا ضرائب علي بضائع الأحباش والطليان التى تمر خلال أراضيهم فى طريقها من وإلي ميناء مصوع. لفترة هادن الساهو المستعمرين الطليان ضد الإثيوبيين بإعتبار عدو واحد أفضل من عدوين. لذلك وقع الأساورته تحت حماية الطليان حسب إتفاقية سميت إتفاقية (هيوتْ) بين الإثيوبيين بقيادة يُوهانس والطليان بوساطة بريطانية (3). لكن الأساورتة عادوا لاحقا وحاربوا الطليان، ليعودوا مرة أخري لمقاومتهم للإحتلال الإثيوبي بعد هزيمة وخروج الطليان من إريتريا.

بالنظر للهجرات العربية القديمة من جنوب الجزيرة العربية إلي سواحل إفريقيا الشرقية. و إستنادا للمشاهدات الموجودة اليوم على طول ساحل إفريقيا الشرقي إبتداء من سواكن مرورا بمدينة مصوع الإريترية، بربرة الصوماليلاندية، كيسمايو الصومالية، ومومباسا الكينية، وتانقا التنزانية حتى مدينة زنجبار الزنجبارية فإن الساهوية، كلغة، دخلت السودان عن طريق الهجرات الحديثة بسبب الحرب و النزاع الإريتري الإثيوبي التاريخي و الذي لازال مستمرا. تلك المشاهدات تتمثل فى تشابه ثقافة وطريق اللبس والسكن والإعتقاد واللغة والرقص والغناء. فالبس الرجالي السائد على طول ساحل شرق إفريقيا هو القرقاب (المعوز) مع القميص والعمة. والنسائي عبارة فوطة (مكوتو) يغلب عليها اللون الأحمر والبرتغالي والاسود. ومن أجل مقاربة الساهو مع ماهو موجود فى السودان بحثا عن المتشابهات والروابط عليكم التوقف عن القراءة لثوان والإلتفات للحضارمة فى تلال البحر الأحمر السودانية وفى كسلا والقضارف. حملة لواء هذه الهجرات الحديثة للسودان هم قبيلة الأساورتة الذين لا يختلفون كثيرا عن الحضارمة فى شرق السودان. ومن هم الأساورتة؟

يقول الشيخ موسي أرحو فى كتابه عن الأساورتة، وكذلك العديد من المصادر، أن أصول الأساورته ترجع إلي جنوب الجزيرة العربية (حضرموت) وأنهم مسلمون متدينون إلي حد التعصب وهجراتهم لإريتريا تقابلها هجرات مُشابهة لمناطق البحر الأحمر فى شرق السودان (4). الغالبية منهم ينتمون إلي طائفة الختمية. يُفصّل أرحو تفصيلا دقيقا فى أصول الأساروتة لم يترك الأُسر والقبائل والبيوتات لمجموعات الأساورته. مرجعه فى ذلك وثائق وروايات من شيوخ وقضاة الأساورتة. فمؤسس الأساورتة هو عمر (أساور) بن لمع بن عمر الأسد والذي يفصل أرحو فى نسبه إلي الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه فى رويات غير مؤكدة. أما تسمية أساور فقد أتت من أن عمر بن لمع كان يلبس أسوارا فى معصميه وعرف بعدها بعمر (أساور). إلحاق تعريف بالإسم الأول تراث معروف ومتواجد حتى الآن لدي القبائل العفرية والصومالية. قبيلة (سب لعاليت*) هى واحدة من أكبر المجموعات الساهوية الأساورتاوية فى شرق السودان. إختلطوا وتزاوجوا مع البنى عامر والهندندوة وبقية مكونات شرق السودان. ولهم عمودية فى السودان تحت نظارة البنى عامر. وقد نشر الشيخ موسي أرحو وثيقة لقرار إداري من معتمدية القضارف بإعتماد شياخة للأساورتة بناء على توصية من ناظر عموم قبائل البنى عامر (5). ومنهم البطل محمد داوود (حريراي) الأساورتاوي من مجموعة أورطة العرب الشرقية واحدة من أولي مكونات قوة دفاع السودان ثم الجيش النظامى للقوات المسلحة السودانية والذي قاتل ببسالة فى معارك بمدينة القلابات.

الأساورتا من أكثر قوميات إريتريا إنتشارا فى دول القرن الإفريقي فهم رعاة يحبون الترحال والتنقل. لكنهم مؤخرا إستقروا وتزاوجوا مع قوميات التقري والتقرنجية وإشتغلوا بالزراعة وتوجد لهم مجتمعات زراعية مستقرة فى الكثير من الأودية كوادى حداس وفى بركا وحدودهم مع التقراى على نهر مرب. واليوم يمثلون واحدة من مكونات قبائل شرق السودان بعمودية مركزها القضارف.
___________________________

هوامش
1- Some word order principles of Saho-Afar. Marcelo Lamberti

2-  The Saho of Eritrea: The Ethnic Identity and National Consciousness. Mohammad, Abdulkader Saleh. Zürich

3- The survival of Ethiopian Independence. Sven Rubenson. Addis Ababa University. Addis Ababa. 1978

4-  بنو أساور عبر التأريخ: سيرة الأساورتة. موسي أرحو. الناشر دار الحكمة ٢٠٠٤. لندن

5-  الوثيقة مذكورة فى صفحة رقم ١٠٠ من كتاب الشيخ موسي أرحو. وهى صادرة من  مكتب معتمد مدينة القضارف. كذلك هناك فديو علي اليوتيوب فى هذا الرابط يوضح إحتفالات الأساورته بمنحهم عمودية فى السودان تحت نظارة البنى عامر. تمثل العمودية ثلاثة عشرا فرعا من بيوتات الأساورتة غالبيتها فى شرق السودان. وقد جاء تنصيب عمدة الأساورتة الشيخ ناصر سليمان محمود فى إحتفال سياسي بمدينة القضارف بمناسبة مرور عشرين عاما الإنقاذ قدمت فيها البيعة للمؤتمر الوطنى فى المنشط والمكره.

6- The Saho of Eritrea and the documenation of their langauge and cultural Heritage. Giorgio Banti & Moreno Vergari. Universtiy of Napoli. Annali. Volume 70. NAPOLI 2010

*سب لعاليت تعنى بالغة التقري (ناس فوق) والمعنى بها سكان المرتفعات و (سب تحاتيت) هم (ناس تحت) أو سكان المنخفضات

الأحد، 6 أغسطس 2017

لوحات إريترية (٢): التِقرنجية شوايقة إريتريا

لوحات إريترية (٢): التِقرنجية شوايقة إريتريا

بقلم سيف اليزل سعد عمر

لستُ هنا بصدد إثبات علاقة بين الشايقية والتنقرنجية على الرغم من إحتمال وجودها بالتنقيب وبصورة علمية فى تأريخ حضارات كوش والنوبة وأكسوم الضاربة فى جذور التأريخ. فشلُوخ* التقرنجية فى الصدغ أصغر حجما من شلوخ الشوايقة فى الجِضُوم. وإذا كانت هناك قبيلة تُشابه شُلُوخِها شلوخ الشوايقة فهي قبيلة (الكَرايُو) ذات الأصول الكُوشية التى تسكن وادى أواش شرق الهضبة الحبشية. وإذا كان هناك تشابه فهو تشابه إيقاعات الشايقية بالطنبور والدلوكة مع إيقاعات التقرينجية بالكِرار (الطنبور) والكبرو (الدلوكة) بالإضافة لإفتتاحية الإغنية بالرمية (الله لى يا الله) عند الشوايقة و (اللالوى) عند التقرينجية.

لإريتريا تسعة قوميات أو مجموعات عرقية هي: الحدارب، التِقرِي، التِقرنجية، الساهُو، العَفر، الرّشايدة، النَارَا، الكُنامٓة والبِلين. كل من هذه القوميات التسعة لها لغتها الخاصة بها، هذه اللغات أُصولها إما فى اللغات النِّيلية أو الحامية أو السامية. أكبر هذه القوميات عددا هى قومية التِقرينجية. لابد فى زمن التعقيدات الإجتماعية هذا وصراعات الهوية، من توضيح أو التعريف بقوميات (التِقراى) و (التِقرِنجيّة) و (التِقِري) فهناك الكثير مما يجمع بينها وهناك أيضا ما يميزهم من بعضهم البعض ومن بقية قوميات إرتيريا أو أثيوبيا أو السودان. المجموعة القومية التى تسكن شمال إثيوبيا وجنوب إريتريا فى مرتفعاتها الجبلية هى قومية (التِقراى). هذه القومية فى البلدين تتحدث لغة واحدة إسمها (التقرنجية). لأسباب سياسية بحتة وبسبب النزاع الإثيوبي الإريتري وبسبب الحدود السياسية التى قسمت هذه القومية، إختارت المجموعة فى الجانب الإيرتري إسم اللغة (تقرنجية) كإسم (إثنى) لها فى إرتريا، واحتفظت مجموعة إثيوبيا بإسم (التِقراى) والفرد منهم يعرف نفسه بأنه (تِقراوى) ومركز حاضرتهم هى مدينة مغلى. تِقراى الجانب الإثيوبى لا يمانعون أن يُطلق عليهم إسم (حَبشَةَ) بينما تقرنجية إريتريا لا يُحبذون إسم (حبشة) بإعتبار الأحباش جزء من دولة حاربُوها وحاربتهم لسنوات عديدة ولازالت هذه الحَرابة مُستمرة. فالجبرتة مثلا (ناطقين بالتقرينجية) يدين غالبيتهم بالإسلام ولا يحبذون أن يطلق عليهم إسم (حبشة) أو تقرينجية. مجموعات صغيرة منهم ليس لديها إعتراض على تعريف أنفسهم بأنهم تِقراى.

موضوع التقرنجية ليس بهذه البساطة فى الجانب الإريتري، فليس كل الذين يتحدثون التقرنجية هم تقراى ومنهم من يريد أن يُعّرف بإسم قبيلته كالجبرتة والعقامى مثلا.  أما التِقرى فهم سكان المنخفضات الإريترية وحتى أجزاء من مناطق شرق السودان ويتحدثون لغة التِقري. أي أنهم مثل التِقرنجية إسم القومية يطابق إسم اللغة.  لغة التقري هي بنت عم لغة التقرينجية فأصل اللغتين هي اللغة القئزية. سنفرد مقالا منفصلا لقومية التِقري فى القريب العاجل. بالنسبة لقومية التِقرى فإنهم يعتبرون كل التِقراى، حتى التقرينجية منهم، يعتبرونهم (حبشة). فإذا وصفوا مواطن إريتري أو مواطنة إريترية بأنه (حبشتايتو أو حبشتايتا) فيعنون مواطن أو مواطنة من قومية التيقرنجية فى الغالب الأعم مسيحى/مسيحية الديانة.  ما يُعقد الأمر لهذه القوميات المتواجدة فى السودان أنهم .جميعا فى نظر الغالبية العظمى من السودانيين أنهم (حبشة، حبشي أو حبشية). وهو ما لا يقبله الغالبية العظمى من التقري والتِقرِنجيّة . وهو ما يؤدي إلي خلافات، خاصة بين مجموعات التقري التى قسمتها الحدود بين السودان والدولتين الجارتين. إطلاق كلمة حبشى على هذه القوميات هو فى الواقع عدم معرفة بالكثير من تفاصيل الديانة والقبيلة والهوية ولجذور الصراع السياسي فى هذه المنطقة. هذا لا ينفى أيضا إن إطلاق كلمة حبشة إذا تطابقت مع أصلها تجد قبولا واسعا من سكان إثيوبيا.

إشتهر المطبخ الإثيوإرتيري عالميا بوجبة الزِغنِى مع الإنجيرا. وقمة الكرم التِقراوى أن يقدم لك وجبة زغنى الدجاج بكامل تقوصه. وهى أن تقطع أجزاء الدجاجة إلي إثنى عشرة قطعة متساوية مع إثنتا عشرة بيضة مسلوقة داخل ملاح الزغنى. سِر تطبيخ الزغنى يكمن فى تحمير البصل مع السمن وبهار البربري الحار لمدة لا تقل عن ساعة، بعدها يُضاف الماء والدجاج ثم فى مرحلة أخيرة يضاف البيض المسلوق. هناك طريقة محددة لأكل الزغنى أخذت منى وقت طويلا قبل أن أتعرف عليها. فالتقراي والتِقرِنجيّة والتقري لايأكلون الإنجيرا بالطريقة التى نأكل (نحن السودانيون) بها الكِسرة. إنهم يأكلون الإنجيرا بهدوء يبدأ من أطراف الصحن او الصينية ثم قليلا قليلا إلي الوسط. يقطعون قطعة صغيرة من أطراف الإنجيرا ثم يمسحونها مسحا خفيفا على ملاح الإنجيرا. أكل الأنجيرا فرصة لإظهار الحب للطرف الآخر إن كانت زوجتك أو شقيقتك أو أحد والديك أو صديقك عن طريق إطعام الآخر من لقمة فيها قطعة من لحم الدجاج وبعض من البيض المسلوق. عملية تخمي الأنجيرا مع إضافة الحلبة المطحونة ورائحة البربري تعطي تكسب بيوت التقرينجية رائحة مميزة.   

الجبنة أهم من الأكل عند التِقراي والتقرينجية والتقري والغالبية العظمى من القوميات الإثيوإرترية. شراب الجبنة عادة قديمة ومتأصلة عند هذه القوميات. وهى فى الحقيقة أكبر من رشفات فنجان القهوة فى لحظات مرورها بعصب الاحساس فى الفم. شراب الجبنة عند التقرينجية وغيرهم هو أحاسيس وشعور يصعب وصفه مهما فصلنا فى الشرح والبحث. كيف لا والقهوة موطنها وأصلها وثقاتها هى الهضبة الحبشية وما تفرع منها من حضارات وقوميات. للجبنة عند هذه القوميات تقُوص وطرائق و قوانين غير مكتوبة  تجعل من شرابها متعة هى جزء من حياة التقرنجية وغيرهم من القوميات الإيثيوإرترية. فالجبنة تكاد تكون مرادفة للإعتقاد خاصة وأنها فى مراحل تطورها مرت بدور الديانة وقصور الأمراء لذلك هناك طقوس محددة لشرابها. تبدأ هذه الطقوس بإرتداء المرأة لملابس أفضل حالا مما كانت تلبسه فى ذلك اليوم بعد يوم عمل شاق فى البيت. ثم تبدأ فى تهيئة مكان إعداد القهوة والذي عادة ما يتم أمام الضيوف وليس فى التُكُلْ (المطبخ). تُغَطَي الارض بحشائش و أوراق الشجر الخضراء و الزهور. بالعدم يتم فرش قطعة كبيرة مطرزة او منقوشة من أي مادة كانت ليوضع عليه كانون الفحم. يُطلق البخور الحبشي لطرد (الأرواح الشيطانية) طيلة فترة شراب الجبنة. ثم يتم تنقية حبات البن الأخضر بعناية وغسلها جيدا بالماء ثم يقلي (يحمص) أمام الضيوف بينما ينتشر دخان البن وسط الحضور برائحته المزاجية المعروفة. تنتهى عملية القلي بوضع البن فى هبابة ثم الطواف بها أمام كل الحاضرين بداية من الأكبر سنا لإستنشاق رائحة القهوة بعدها يتم سحن البن و يغلى مباشرة فى جبنة الفخار مع إضافة الزنجبيل حسب المزاج. تُصب القهوة فى الفناجين من صبة واحدة غير منقطعة بمهارة عالية. ثم تقدم للحضور مع فيشار الذرة الشامية أو البلح أو الحمباشة (نوع من معجنات التِقرنجية). من الضروري جدا أن تُشكرَ التى أعدتْ القهوة بأن تقول لها: طُعُمْ بنُ. ترد هي عليك داعية الرب أن يعطيك كل ماهو طاعم: طُعم يهبكُم~. فى تلك الجلسة لابد من شراب القهوة ثلاث مرات: الأبول، ألتون والبركة (بالأمحراوية)، فى السودان (البكر ثم التنى والبركة)، بالتِقري (أوَّل، دِقّم، ثالساي وبركتْ). حديثا كشفت إحدي الوثائق^ التى كتبت بالقئزية أن هذه الإسماء الثلاث كانت لثلاثة من الملوك فى طريقهم إلى أورشليم القدس. كانوا خلال رحلتهم هذه يشربون الجبنة لتساعدهم على السهر. و عادة شراب القهوة ثلاث مرات ماهي إلا عادة لتخليد ذكراهم.

من أميز مظاهر وملامح نساء التقرنيجية التى تميزهم عن بقية الإريتريات من القوميات الأخري هى طريقة تسريح الشعر (المُشاط) وطريقة اللبس. هناك أشكال مختلفة للمشاط عند التنقرنجية الخلاف الرئيسي بينه وبين مشاط الشايقية هو أنه يبدأ من أمام الرأس وتنتهي الضفائر فى الخلف عند بداية الرقبة ثم يترك بقية الشعر مفرودا دون تضفير. بينما مُشاط الشايقية يبدأ من أعلي منتصف الرأس فى شكل ضفائر صغيرة حتى نهاية الشعر مُنسدِلة علي الجانب الأيمن والأيسر للمرأة. أما اللبس التقليدي فهى فساتين الزوريا القطنية مع تطريز ملون يبدأ من الرقبة مرورا بالصدر ينتهى عند الساقين بعلامة الصليب. نفس طريقة التطريز هذه تنتهي بها أكمام الفستان الطويلة. لايوجد فرق كبير بين نساء ورجال التِقرنجية فى طريقة الرقص. يختلط النساء مع الرجال فى حلبة الرقص الدائرية، توضع راحة اليدين أو أطراف الأصابع فى أعلى الفخذين مع إنفراج خفيف لليدين عند الكوع إلى الخارج، ثم التقدم خطوة واحدة للأمام ووضع القدم الثانية مكان الخطوة الأولي فى تناغم مع إيقاعات الدلوكة (الكبرو) ومع كل خطوة إستدارة خفيفة جدا للكتف إتجاه اليسار ومرة أخري إتجاه اليمين. عند لحظات تسارع إيقاعات الكبرو تتوقف الدائرة عن الدوران ويتواصل الرقيص ثنائيا او ثلاثيا مع إهتزاز الكتفين والرقبة.

قومية التِقرنجية هى أكبر القوميات الإثنية فى إريتريا وهى التى تسيطر على الجزء الأكبر من مفاصيل السلطة فى إرتيريا. إِتحَدُوا فى لحظة تاريخية مع تِقراي إثيوبيا بقيادة الراحل ملس زيناوي وأسقطوا نظام منقستو هيلى مريام فى أديس أبابا. يتهمهم البعض بممارسة الإستعلاء العرقي تجاه القوميات الإريترية الأخري. لا أريد الدخول فى نقاش هذا الموضوع لانه يحمل مضامين سياسية وتفاصيل معقدة ليست من هدف هذا المقال. إلا إننى أستطيع ان أقول أن قومية التقرنجية كغيرها من قوميات إريتريا تعتز جدا بثقافاتها ومورثاتها أحيانا يصل لمرحلة التعصب. فى إحتفالات التِقرنجية الإجتماعية الخاصة نادرا جدا إتاحة فرصة لأغانى التقري أو أغانى من أي قومية أخري. ففى فترة من فترات النزاع الإريتري مع إثيوبيا والسودان مُنعت الأجهزة الإعلامية فى أسمرا من بث الأغانى الأمهراوية والسودانية. تفاصيل اكثر حول هذا الموضوع تجدونها فى مقال سابق بعنوان "فيامتا: أغنية تثير حربا كلامية بين إثيوبيا وإريتريا".

هذه لوحات من لوحات إريترية لواحدة من أكبر وأعرق القوميات الإريترية شكلتها تداخلات التاريخ والسياسة والتداخلات الإجتماعية.

هوامش:
*شلوخ التقرينجية هى فى الوقع فصدات صغيرة تُفصد عند الصدغ أو نهاية الحاجب أو فوق جفن العين العلوى.

~ يهبكُم: صيغة إحترام ما تستخدم دائماً لدي التِقرنجية  مفردها يهبكا. والأصل العربي فيها واضح وتعنى يعطيكم او يعطيك.

^ الكريسماس ونظام التقويم الإثيوبي - فينتاهون ترونيه - مكتبة الكونجرس الأمريكي.

الجمعة، 4 أغسطس 2017

لوحات إريترية: مراسيم الزواج الكوشي لدي قبيلة البلين (١)

لوحات إريترية: مراسيم الزواج الكوشي لدي قبيلة البلين (١)

فى التغيرات المدنية والإقتصادية الإجتماعية يواجه الحفاظ علي التقاليد والمورُوثات الثقافية للمجمُوعات القبلية تحديات كبيرة. قبيلة (قومية) البِلين ذات الأصول الكُوشية هى واحدة من تلك القوميات التى تسكن منخفضات إريتريا (عنسبة) فى قري متناثِرة حول مدينة كَرنْ، لازالت تحتفظ بالكثير من تقاليدها ومورثاتها الثقافية. البلين قبيلة تمثل التعايش السلمى بكل معانيه، فقد قسمهم الدين واللغة والجغرافيا إلي قسمين كان يمكن أن تمثل بذرة نزاعاتٍ قبلية لكن فى الواقع المعاش أثرتْ البلين بهذا التنوع الكبير. فالبلين قبيلة مقسومة بين الديانة المسيحية والإسلام.  فليس غريبا وسط البلين أن يكون الفرد مسلما وشقيقه أو شقيقته أو أحد والديه مسيحياً. ويعتبر البلين حَملَتْ التبشير بالمسيحية (الكاثوليكية) فقد كانوا قساوِستِها والمبشرين بها وكُتِبتْ كُتبِها بلغتِهم التى تسمي البلين. وقسمتهمُ اللغة  فأنقسموا بين متحدثٍ بلغة التِقري من جهة الشمال والغرب ومن يتحدث التِقرينجية من جهة الجنوب والشرق. وانقسموا بين ثقافة المرتفعات (الكبسة والحماسيين) وثقافة المنخفضات (قاش-بركة) الإريترية. ورغم إختلاف المصادر حول أصل تسمية البلين إلا أن جمال بناتها كأجمل نساء إريتريا هو المرجح كأسم لهذه المجموعة، فبلين تعنى باللغة العِبرية (الجميلة).  آخرون يُرجِعون أصل التسمية إلي (بلينتو) بلغة الساهُو وتعنى (المسيحية او المسيحى).  أما عن أصول البلين ففيها روايتان يصعب التوثق منهما فالرواية الأولي تقول أنهم أتوا من أقليم لأستا وبوقوس من شمال إثيوبيا والرواية الثانية، وهى الأرجح عندي، تقول أنهم هاجروا من المناطق الشرقية الشمالية من السودان و تحديدا من مملكة كوش.       

بناء على مشاهدات عامة وحضور للعشرات من مراسيم الزواج فى دول القرن الإفريقي هناك ملاحظتان. ألاولي أستطيع أن أقول أن مراسيم الزواج الإريتري عموما هى الأكثر تفاصيلاً وتنوعاً وتنظيماً. وهى عادة ما تستغرق أسابيعاً وشهوراً فى الإعداد والتنفيذ يشارك فيها جميع أفراد العشيرة والأسرة بدرجات متفاوتة. زواج البلين مناسبة إجتماعية هامة يشترك فيها الجميع فى القري المتناثرة حول مدينة كرن. حتى فى المهاجر يعتبر الزواج البليناوى الأكثر حضورا ومشاركة فى الإعداد والتنظيم. أما الملاحظة الثانية أن المشاركة فى مراسم الزواج الإريترية  لا تتأثر بالاسلام أو المسيحية، فالدين لايقف حاجزا أمام المشاركات الإجتماعية فى مراسيم الزواج الأريتري بين مجموعة قبلية أو قومية.

من معالم التشابه الكوشي هو طريقة الأداء الراقص للبليناوِيات مع طريقة رقص بعض القبائل البجاوية مثل البنى عامر صُورة وأداء. فقبل مراسم الزواج تُمشط المرأة شعرها فى ضفائر صغيرة مقسومة علي الجانب الأيمن والأيسر. ثم تربط سِلسلة من الدوائر ذات اللون الذهبي أو الفضي (القريط) عند مقدمة الشعر فى شكل نصف دائرة من أعلي الرأس حتى بداية الأذنين. هذه هى الصورة اما الأداء الراقص للبليناويات والمسمى (الشٓلِيلْ*) فهو أيضا يشابه طريقة الرقص البيجاوي بتحريك الرأس يمينا وشمالا وبالتالي تحريك الضافير الممشطة يمنا وشمالا فى تناغم مع إيقاعات آلة الكبرو (الدلوكة). حتى فى شمال كردفان نجد هذه الطريقة من الرقص عند بعض المجموعات القبلية فى ذلك الإقليم. والشليل لدي هذا القبائل الكردفانية هو الزينة المصنوعة من الأصداف (الودع) والتى أحيانا تستخدم بنفس الطريقة البليناوية. وحتى تكتمل الصورة الفنية للبليناوية ففى يوم الإحتفال تلبس إما الزوريا المصنعة من القطن فى تصميم تراثي أهم معالمه هو وجود علامة الصليب للمسيحين منهم عند نهاية الفستان أمام الساقين.أو طرحة وفستان من الشفون  مزركش من اللون الأحمر والأصفر والبرتغالي والأسود شبيه بقماش (القرمصيص) المستخدم لدي الكثير من المجموعات القبلية فى السودان.

من أهم مراسيم الزواج البليناوي هو عصيدة الذرة بالروب والسمن فى قدح خشبي كبير للعريس يشاركه فيها أصحابه المقربين. العصيدة بالروب والسمن المخلوط ببهارات البربري هى تراث غذائى مشترك بين جميع المجموعات القبلية الإريترية . عصيدة الروب بالسمن هى أيضا عادة منتشرة من السودان غربا وحتى إريتريا شرقا خاصة لدي مجموعات الكبابيش والبجة.

حركة الرقص الدائرية للبلين (السيسعيت) ولمجوعات التقرى والتفرينجية تدور فى إتجاه معاكس لعقارب الساعة. الجهة اليسري فى إتجاه مركز الدائرة دوما. خطوات الأقدام المتناغمة تحكمها إيقاعات الدلوكة (الكبرو). آلة أخري تعزف قبل نهاية الأغنية لتسخين حركة الرقص هي آلة الهارمونيكا او ما يعرف (بالفام فام) بلغة البلين. بعض قبائل شمال كردفان تستخدم صفارة بسيطة لتسخين حلبة الرقص. لايوجد زواج للبلين بدون الكبرو والسيف وسوط العنج والسفروك. تستمر حركة الرقص الدائرية حتى تأتى لحظة يتغير فيها الأيقاع إلي إيقاع أسرع وأسخن من الإيقاع الأول، عندها يقف الدوران الدائري ويتحول الرقيص من جماعي إلي زوجى بغض النظر إن كانت أنثي أو ذكر.  يبرز كل شخص مهارته الراقصة بهز الكتفين والرقبة مع إيقاعات الكبرو مع صوت سكسكة (تس تس تس تس) متناغم مع الكبرو والهارمونيكا. ثم إستدارة سريعة يلمس فيها أحد الراقصين ظهر الآخر بكتفه. هذه اللحظات هى قمة لحظات متعة الرقص البيلناوى والتقري والتقرينجية. رقيص البلين عبارة عن لوحة موسيقية كروكروفيه رائعة متناغمة مع الكثير من التفاصيل.

أحد مراسيم الزواج البيلناوى يمكن تشبييها بالسيرة، لكنها فى الواقع مظاهرة إحتفالية جماعية بين مجموعة الرجال من جهة والنساء من جهة أخري. فى يوم الزفاف عادة ما يتجمع جميع الرجال فى أحد أطراف القرية على بعد مئات الأمتار من بيت أهل العروس. يقف الرجال فى خط مستقيم بعضهم يحمل السفروك إلي أعلي وجانبه المعقوق إلي الأمام. ثم يبدأوا فى مجادعات كلامية تحكي مناسبات مخلتفة فى رمزيات سلوكية. يبدأ الرجال فى التقدم قليلا قليلا صوب بيت العروس على أنغام المجادعات وضربات وإيقاعات الكبرو الآتية من جهة النساء اللأئى خرجن لإستقبال الرجال امام بيت العروس. بعض الشباب يتقدمون صفوف الرجال وهم يحملون السيف ويعرضون بخفة فى محاولة للتشبه بقدلة الأسد بحركة القدم وهي تزيح تراب الارض للخلف كحالة للتأهب للقتال.

أما عادة النقطة (البسوت)، نثر النقود الورقية للمغنى أو الراقصة، فتعتبر من عادات الزواج البليناوى، أحيانا لها مواعيد محددة عندما يبدأ احد المغنيين بذكر محاسن العروس والعريس و أحيانا عندما يتجمع كبار المسنين من أهل العريس يقدمون له النصح ويباركون له الزواج. والبليناويون يجودون بسخاء خلال النقطة لأنها بالنسبة لهم دلالة على كِبر العشيرة ومتانة العلاقات بينها. نوع آخر من أنواع النقطة هو الزيارات بين أهل العروس والعريس وتبادل الهدايا والتى قد تكون أموال أو بهائم أو ملابس أو مشغولات يدوية. عادة رش الحليب فى وجه العريس المنتشرة فى غرب وشمال وشرق السودان يمارسها البلين أيضا وتسمى (سيمديت).

هذا المقال كتب بعيون وتجارب سودانية الغرض منه محاولة التعرف علي ما يربط شعوب القرن الإفريقي والتعرف على ثقافة الآخر مساهمة فى تحقيق السلام والتصالح فى هذا الجزء من إفريقيا. بعض ما جاء فى المقال هو ملاحظات او إنطباعات ومقاربات أتمنى ان تفتح الباب لمزيد من الإهتمام والبحث مستقبليا.

سيف اليزل سعد عمر

هوامش :
:ورقة باللغة الإنجليزية بعنوان
Trying to find the stepping-Stones : Writing Tigre and Bilen dancing in Eritrea.
محاولة لمعرفة الخطوات: كتابة رقص  التقرى والبلين فى إريتريا. كريستين ماتزيكى، محمد صالح إسماعيل (مدير مدرسة شيب) و تيسفاسقى أوكوبازقى (طالب قانون من كرن)، جامعة ليدز. مجلة المسرح . جنوب إفريقيا. ٩ أغسطس ٢٠١١.

مراجعة محتوي، عبد الوهاب يس موسى (كندا - تورنتو)

*(الشَلِيل) نوع من الرقص حصريا لنساء البلين أما (ود سوميا)  فنوع من الرقص حصريا للرجال. فى ود سوميا يقف الرجال صفا واحد مع قفزات أو عرضة أمام صف النساء المغنيات. كذلك للبلين عينة من الدوبيت تسمي (الشيفيرا)