6th of April 1985 in Sudan

6th of April 1985 in Sudan

سودانيات

سودانيات هو منبري لمناقشة ومعالجة قضايا السودان مع السودانيين ومن هو قادر على فهم اللغة العربية. وما أطرحه من رأى على هذا المنبر هو رأى أنا شخصيا لايمكن أن يحاسب عليه أحد آخر. أما مبادئ المنبر فإنها تقوم على حرية الرأى،إحترام الرأى الآخر، الموضوعية، تحرى الدقة وتقصى الحقائق.

الجمعة، 3 مايو 2013

الحصاد المر في العلاقات السودانية المصرية الحلقة الثانية


 
This is the second and the third part of the article by Dr. Abdalla Gasmelseed
Uppsala - Sweden


الحصاد المر في العلاقات السودانية المصرية الحلقة الثانية
بقلم: عبد الله محمد قسم السيد
في الحلقة الأولى تحدثنا عن محاولات مصر المستميتة في فرض تبعية السودان للتاج الملكي المصري من خلال بعض قيادات الحزب الوطني الإتحادي تحت إشراف صلاح سالم الذي لم يترك إغراءا ماديا كان أو معنويا إلا وقدمه. إرتطمت تلك المحاولات بصخرة بالرغبة الجامحة للإستقلال والتي لم يجد إسماعيل الأزهري غير الإنصياع لها.

في يوم 19 ديسمبر عام 1955م تم إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان حين تقدم العضو عبد الرحمن محمد إبراهيم دبكة (دائرة نيالا) باقتراح للبرلمان يقضي بإعلان الاستقلال عن بريطانيا ومصر وقام بتثنيته العضو مشاور جمعة سهل(دائرة دار حامد غرب). هذا الإعلان كان له تداعيات سلبية عميقة في المجالات السياسية والإقتصادية على السودان وشعبه. هذه التداعيات السلبية لم تكن لتستمر لو كان السياسيون على قدر العزم الذي تميزت به جماهير مظاهرات مارس 1954م وشهدائهم الذين لولاهم لما نعم السودان وشعبه بالإستقلال.

بعد إعلان الإستقلال من داخل البرلمان تم تشكيل حكومة قومية برئآسة الأزهري ولم يمض عليها ستة أشهر حتى تضعضعت وسقطت بعد إنقسام الحزب الإتحادي في منتصف يونيو من عام 1956م بعد أن تم طرح صوت ثقة عليها.  بعدها قامت أول حكومة قومية ضمت الحزب الإتحادي الديموقراطي وحزب الأمة وحزب الشعب الديموقراطي وحزب الأحرار الجنوبي. هذه الحكومة لم تصل إلى أهدافها فيما يتعلق بقضايا السودان لعدم وجود برنامج يحدد تلك القضايا وطريقة الوصول إليها من ناحية، والمناكفات السياسية داخل الوزارة التي لا تتعلق بقضايا الشعب السوداني من ناحية أخرى. في هذه الفترة كانت التدخلات المصرية في السياسة  السودانية تأخذ أشكالا عدة هدفت لتوسيع الخلافات داخل الحكومة القومية بهدف تعزيز موقف الإتحاديين مقابل إضعاف حزب الأمة حتى تتمكن من التوصل إلى إتفاق بشأن مياه النيل وبناء السد العالي الذي تنوي مصر بناءه.
تخلي اسماعيل الأزهري عن فكرة الإتحاد مع مصر وتوجهه نحو إعلان الإستقلال من داخل البرلمان كان نقطة البداية في التحول في علاقة مصر مع الحزب الإتحادي الديموقراطي حيث أوقفت دعمها المادي والسياسي والإعلامي له الأمر الذي مكن حزب الأمة من الفوز في الإنتخابات الثانية عام 1958م حيث فاز ب 63 مقعدا. هذا الفوز لحزب الأمة كان من الممكن أن يمثل نقطة تحول كبيرة في السياسة التنموية للبلاد حين أعلنت الحكومة بقيادة عبد الله خليل وقف العمل بإتفاقية مياه النيل لعام 1929م بعد إنتهاء مدتها في عام 1959م وإعادة النظر فيها بالمنظور الذي يحقق تنمية السودان. ولكن هذا المنظور التنموي للسودان وشعبه أدى لعكس ما هو متوقع بسبب سلبية السياسة المصرية تجاه السودان وبسبب من كان هواه مصريا من سياسيي السودان.

 فوز حزب الأمة بأغلبية 63 مقعدا لم تمكنه من تكوين حكومة منفردا مما إضطره إلى تكوين حكومة إئتلافية مع حزب الشعب الديموقراطي بقيادة على عبد الرحمن وهو الحزب المنشق عن إسماعيل الأزهري. وكما هو الحال في الحكومات الإئتلافية لم تكن حكومة حزب الأمة وحزب الشعب الديموقراطي منسجمة في رؤيتها لمواجهة الكثير من المشاكل الإقتصادية والإجتماعية. وبسبب عدم الإنسجام هذا دخلت البلاد في أزمة سياسية كان نتيجتها قيام أول إنقلاب عسكري يشهده السودان وهو إنقلاب الفريق عبود في نوفمبر عام 1958م. هذا الإنقلاب والذي تصوره الكثير من الكتابات التاريخية الحديثة على أنه إنقلاب صوري تم عبر تسليم وتسلم قام به حزب الأمة إلا أن أبعاد وأسباب هذا التسليم والتسلم لم يتم تناولها بصورة علمية رابطة لكل الجوانب المتعلقة بهذا التسليم بما فيها مسيرة العلاقة التاريخية بين الحزبين المؤتلفين من جهة و تاريخية العلاقة بين حزب الأمة ومصر من جهة أخرى. فإذا نظرنا لما حدث بعين الباحث المتجرد فيما يتعلق بإنقلاب عبود العسكري لوجدنا بصمات النظام المصري واضحة من مرحلة الإعداد والتخطيط والتنفيذ وحتى الدعم بعد نجاحه وهو نفس السيناريو الذي تكرر في إنقلاب مايو بقيادة نميري وإنقلاب الجبهة الإسلامية بقيادة البشير مع إختلافات طفيفة لا تنفي التدخل المصري كما سنعمل على تبيانه لاحقا.

 لم تكن تتوقع مصر موقف حكومة عبد الله خليل المتشدد فيما يتعلق بمياه النيل مما دفعها إلى التفكير في إسقاطها حيث لجأت إلى حلفائها التقليديين ممن كان ينادي بوحدة وادي النيل. وبسبب الإنقسام داخلهم كان على مصر العمل على توحيدهم أولا وقد تم ذلك بدعوة قياداتهم إلى مصر. وبعد أن إجتمع الطرفان في ضيافة مصر، صرح إسماعيل الأزهري متحدثا بإسم الحزب الوطني الاتحادي بإعترافه باتفاقية مياه النيل لعام 1929م التي أرادت تعديلها حكومة عبد اله خليل. كان هذا الإعتراف للأزهري بالإتفاقية إشارة واضحة بأنه سيكون ممتنا لمصر إذا رجع إلى الحكم بالصورة التي حدثت في إنتخابات عام 1953م حين لعبت الأموال المصرية الدور الكبير في فوزه. من جانب آخر صرح علي عبد الرحمن رئيس حزب الشعب الديموقراطي بأن حزبه يقف في المعارضة على الرغم من أن حزبه حتى تلك اللحظة كان جزءاً من الإئتلاف الحكومي. الأمر الذي يعني بوضوح أن حزبه لا يمانع في الوحدة مع حزب الأزهري من جديد تحت رعاية مصرية. مثل هذه التصريحات في دولة أجنبية كانت دولة محتلة للسودان وما زالت تعتبره حقا تاريخيا لها، تحمل الكثير من المعاني لأي حاكم وطني غيور على السودان وشعبه. في هذا الجو السياسي الذي يهدد ليس الوضع الديموقراطي بل استقلال البلاد وسيادتها لم يكن أمام عبد الله خليل رئيس الوزراء إلا أن يسلم الحكم للجيش حتى يقوم بمهمة الدفاع عنها‏‏. كان الهدف الأساسي إنقاذ البلاد من خطر إعادة إستعمارها من جديد قبل أن يكون إنقلابا عسكريا على وضع ديموقراطي خاصة أنه قد سرت إشاعة بأن مصر تخطط لتدبير إنقلاب عسكري في السودان يطيح بحكومة حزب الأمة. وكما يقول منصور خالد كان تسليم عبد الله خليل للسلطة للفريق عبود في هذا الظرف أكثر جدوى من الحفاظ على ديموقراطية لا يستحي بعض المشاركين فيها أن يقفوا ضد مصالح شعبهم.[1] ويعني منصور خالد بذلك موقف بعض قادة حزب الشعب الديموقراطي.

وحتى تخلق أزمة داخلية لحزب الأمة ارسلت حكومة مصر خطابا الى حكومة السودان في فبرائر من عام 1958م تعلن فيه سيادتها على اراضي سودانية شمال شرق السودان وهي المنطقة المعروفة بمنطقة حلايب و منطقة شمال مدينة حلفا، مناطق: سره، ودبيرة، وفرس. وفي تبريرها لهذا الإحتلال أعلنت ان هذا تم حسب الاتفاقية بين مصر وبريطانيا سنة 1899م. كان رد الفعل لحكومة السودان أن بعثت وزير الخارجية السوداني لبحث الموضوع مع المسئولين المصريين ولما لم يصل الجانبان الى إتفاق قامت القوات المصرية بحشد جيشها على الحدود. وحتى تتأكد من موقف مصر في منطقة حلايب أرسلت الحكومة السودانية على حسن عبد الله، وكيل وزارة الحكومة المحلية في السودان لزيارة منطقة حلايب، وتأكد له وجود القوات المصرية داخلها. كان رد الفعل من حكومة عبد الله خليل إعلان التعبئة العامة للدفاع عن حدود السودان كما رفعت الأمر إلى مجلس الأمن موضحة فيه أن المنطقتين تتبعان للسيادة السودانية وتديرهما حكومة السودان ولم تشتركا في اي انتخابات او استفتاءات مصرية. بل بالعكس اشتركتا في الانتخابات السودانية سنة 1953 والتي اجريت حسب اتفاقية سنة 1953 البريطانية المصرية التي منحت السودان الحكم الذاتي في الطريق نحو تقرير مصيره. لم تقف الحكومة السودانية في توضيح سيادتها على هذه المناطق بل حذرت في نفس الوقت في رسالتها إلى مجلس الأمن بأن حكومة السودان نحرص على الدفاع عن السيادة السودانية على المنطقتين. وأنها مستعدة للتمهل لحل المشكلة سلميا كما تؤكد ان المشكلة يمكن ان  تتطور الى مواجهة عسكرية. رسالة واضحة المعالم والنوايا من حكومة يقودها حزب الأمة لما سيترتب عليه عدم إنسحاب مصر. جاء الرد المصري على موقف السودان ملئ بالإستفزاز والمغالطات كما جاء في دك محمد علي صالح في ترجمته للوثائق الأمريكية عن السودان والمنشوة في صحيفة سودانايل الإلكترومية.[2] 

في هذا الوقت والذي من المفترض أن تقام فيه إنتخابات عامة بدأت أحزاب المعارضة وعلى رأسها الإتحادي الديموقراطي بإستثمار هذا الموقف للحكومة سياسيا ضدها وظهر ذلك في عدة مواقف. ففي نفس الشهر فبرائر 1958م الذي احتلت فيه مصر حلايب، أرسل الازهري خطابا إلى عبد الناصر جاء فيه: "اود منكم ايها الاخ الكريم ان يستمر الوضع الراهن حتى بعد نهاية الانتخابات. وانا متأكد انه، بعد ذلك، ستقدر العلاقات والعواطف الاخوية بين شعبينا على الوصول الى حل سلمي. وليوفقنا الله على طريق الحكمة والتعقل."[3] هذه الرسالة تحمل رفض الأزهري للطريقة التي تتبعها حكومة عبد الله خليل من جانب كما تحمل معنى تغيير أسلوب التعاون إذا ما جاء هو إلى سدة الحكم من جانب آخر. جاء رد عبد الناصر للأزهري يحمل نفس المعنى مع الإعتذار وإلغاء اللوم على الإمبريالية وذلك في قوله "نحس بالاسف لتطورات الايام الثلاثة الماضية.  ونحن نبذل كل جهد لحل المشاكل بيننا حلولا سلمية.  لكننا فوجئنا والقول ل عبد الناصر، بالاخبار غير الصادقة بان الجيش المصري يغزو السودان.  ستساعد مثل هذه الاخبار فقط الامبريالية التي تريد خلق مشاكل بين الشعبين المصري والسوداني.  واتفق معكم على ان روح العلاقات والتعاون بين شعبينا ستقدر على وقف اي تطورات الهدف منها خدمة اعدائنا.  والسؤآل هل يا ترى قامت الإمبريالية بدفع الجيش المصري للحدود السودانية أم أن القائد الأعلى للقوات المصرية هو الذي أمرها بذلك؟ أما إعلاميا فقد إنتهز الإعلام المصري خطاب الأزهري وجمال عبد الناصر ليوضحوا للشعب السوداني ان اسماعيل الازهري، رئيس الحزب الاتحادي، لعب دورا كبيرا في حل مشكلة حلايب بهدف زيادة اسهم الازهري في الانتخابات على حساب حزب الامة وعبد الله خليل. 

تحت هذه الضغوط الخارجية من قبل مصر والداخلية من قبل أحزاب المعارضة قام عبد الله خليل بتسليم السلطة للجيش ليتحمل مسئوليته تجاه حماية البلاد. وفي بيان صدر عن الإمام عبد الرحمن المهدي أيد حزب الأمَّة الإنقلاب العسكري[4] كما أيده حزب الشَّعب الدِّيموقراطي والحزب الوطني الاتحادي. بيانات تأييد إنقلاب عبود كانت ذات أهداف مختلفة فبينما كان تأييد الإمام عبد الرحمن هو ترك الأمر للجيش للدفاع عن البلاد كان هدف الإتحاديين إبعاد حزب الأمة عن الحكم. يقول تيم نبلوك " التقارب بين الإتحاديين مع النظام العسكري هدف إلى تمتين العلاقات مع مصر، وتسهيل مهمة توقيع اتفاقيَّة مياه النيل عام 1959م. وبالتالي أصبح تأييد الختميَّة ضروريَّاً ليس فقط لبقاء النظام العسكري وإبعاد تهمة عدم الشَّرعيَّة عنه، وإنما لدوام العلاقة بينه والنظام المصري"[5]  
بدأت بعد إبعاد حزب الأمة من الحكم، المفاوضات بين السودان ومصر فيما يتعلق بمياه النيل وكما أوضح الدكتور سلمان أحمد سلمان في دراسته الموثقة والمنشورة على صفحات الصحف السودانية كالراكوبة وسودانيل أن المفاوضات جاءت لتصب كلية في مصلحة مصر بفضل قادة الحكم العسكري الأول بقيادة الفريق إبراهيم عبود ومن بقايا وهم وحدة وادي النيل التي لجأ إليها نظام الإنقاذ حاليا والتي سنتناولها في حلقة خاصة. هذا الموقف المصري سيتكرر لعقود تالية عقب كل ثورة يقودها الشعب السوداني يأتي بعدها حزب الأمة لقيادة البلاد من خلال إنتخابات حرة نزيهة كما سنوضح في الحلقات القادمة.


 للمزيد أنظر (أقوال الفريق عبود في التحقيق الجنائي حول الانقلاب بعد ثورة أكتوبر 1964 ـ التجربة الديمقراطية، وتطور الحكم في السودان، إبراهيم محمد حاج)‏.‏‏ والدكتور منصور خالد، في كتابه، (السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام ـ قصة بلدين، دار تراث، 2003،  الصفحات 232-233   
[1]
[3]  للمزيد في هذا الجانب أنظر محمود قلندر السودان ونظام الفريق عبود 17 نوفمبر _21 أكتوبر  64 مراجعة صحفية لملابست التدشين الأول للمؤسسة العسكرية في دهاليز السياسة السودانية. دار عازة اانشر، الحرطوم، السودان  2012م
[4] (تيم نبلوك؛ صراع السلطة والثروة .. ، ص 210).
[5] "مذكرات خضر حمد ـ ذكرها القدال في معالم ..، ص 107 كذلك أنظر المرجع أعلاه
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------


الحصاد المر في العلاقات السودانية المصرية الحلقة الثالثة .. بقلم: عبد الله محمد قسم السيد

إنتهينا في الحلقة الثانية إلى أن مصر عملت على توحيد حلفائها لإسقاط حزب الأمة ليسهل لها تحقيق هدفها في إستمرارية مصالحها المائية وتسهيل بناء السد العالي وقد تحقق لها ذلك بالصورة التي لم تكن تتوقعها. لم تكتف حكومة عبود على التخلي من نصيبها في المياه بل وافقت على منح أراضي منطقة حلفا لتغمرها مياه السد العالي بثمن بخس لم يتعد 15 مليون دولار تدفع على أقساط لتغمر 7 آلاف سنة ملئ بحضارة وتراث كما يقول علماء الآثار خاصة في فرنسا وبولندا بسبقها للحضارة المصرية زمانا وثراءا.هذا التنازل الذي أبداه المفاوض السوداني في تلك المفاوضات يتطلب إعادة النظر لمعرفة أسبابه الحقيقية إذ ليس من السهل أن يقدم سوداني وهو بكل قواه العقلية للتوقيع على إتفاقية ضد بلده ومصالحها .

لم يكد الشعب السوداني يطيح بحكومة عبود العسكرية في ثورة شعبية عارمة حتى بدأت مصر من خلال إعلامها بتبخيس ثورته التي تلتها حكومة ديموقراطية منتخبة على رأسها حزب الأمة. لهذا بدأت مصر تدخلها السالب فيما يتعلق بالديموقراطية في السودان مرة أخرى عام 1969م بدعمها لإنقلاب جعفر نميري المتعارف عليه بنظام مايو. غير أن هذا التدخل لم يكن كسابقه من خلال دعم القوى المساندة لوحدة وادي النيل ولكنه جاء من خلال دعم القوميين العرب بالتعاون مع الإشتراكيين التقدمين من جانب كما أنه صحبته توجهات عملية في إزالة كيان الأنصار وحزب الأمة بإعتبارهما قوى رجعية تعمل ضد مصلحة السودان وشعبه. لعب النظام المصري دورا كبيرا ليس فقط في التخطيط والإعداد والتنفيذ للإنقلاب ولكن على نجاحه وإستمراريته. ففيما يتعلق بالإعداد والتنفيذ لإنقلاب مايو إستقلت مصر البلبلة السياسية التي تلت طرد الحزب الشيوعي السوداني من الجمعية السياسية بعد حادثة معهد المعلمين بأمدرمان وبدأت في التخطيط له من قبل القوميين العرب من خلال بابكر عوض الله وتقديم تمويل للانقلابيين من خلال بنك مصر بالخرطوم ومديره محمد عبد الحليم. وبالطبع كان الموالون لمصر سباقين لتأييد الإنقلاب فكان على رأسهم الميرغني والشيخ علي عبد الرحمن. كذلك كان الشيوعيون أول من بارك الإنقلاب ودعمه.

يؤكد شوقي ملاسي الدور المصري في التخطيط والتنفيذ للإنقلاب في مذكراته التي عرضها الصحفي مصطفى البطل في جريدة الأحداث حين إلتقى اللواء مصطفى عبد العزيز وكيل وزارة الداخلية المصرية، بتكليف من وزير الداخلية زكريا محى الدين بزيارة السودان بقادة التنظيم الناصرى بحضور بابكر عوض الله نائب رئيس القضاء. كان هذا اللقاء بداية التنسيق لانقلاب مايو حزب سوداني ذي توجه عقائدي وبالتنسيق مع مكتب الشئون العربية برئاسة الجمهورية المصرية. وكما يقول البطل كان بابكر عوض الله " ضالعاً فى التخطيط السياسى العقائدى بينما هو جالسٌ فعلياً على منصة القضاء" مستندا في حديثه على مذكرات شوقي ملاسى التي يقول فيها "ان بابكر كان ناشطاً فى حركة الناصريين أثناء إضطلاعه بالتكليف القضائى. .. ان الاشتراكيين العرب والناصريين السودانيين كانوا على اتصال منتظم بمكتب وزير الرئاسة فى مصر سامى شرف، عن طريق مسئول الشئون العربية برئاسة الجمهورية فتحى الديب. وكان يمثل الطرف السودانى الناصرى بابكر عوض الله والعميد احمد عبد الحليم والطاهر عوض الله، وقد قامت السلطات المصرية من جانبها بتعيين محمد عبد الحليم (شقيق احمد عبد الحليم) بدرجة مدير ببنك مصر بالخرطوم، وكان هو المسئول عن تمويل الانقلاب." نقلا عن صحيفة "الاحداث" – 24 مارس 2010. بعد نجاح الإنقلاب تم التوقيع على ميثاق طرابلس بين السودان ومصر وليبيا في عام 1969م والذي نص على الدفاع المشترك بين تلك الدول الثلاث في حالة التعرض لغزو أجنبي أو لخطر داخلي.
لم يكن خافيا على المعارضة لنظام مايو الدور الذي لعبته مصر في نجاحه وإستمراريته لهذا كتب الإمام الهادي زعيم الأنصار لعبد الناصر قائلا "في 25 مايو قامت جماعة من الضباط الشيوعيين والناصريين بإنقلاب فألغت الدستور وصادرت الحريات وسجنت الناس ولا تزال تمارس طيشها في كل مرفق في البلاد. وتأكدنا أنكم قد إشتركتم في تدبير هذا الإنقلاب في إجتماع عقد بالقاهرة بين سيدتكم وبابكر عوض الله وعبد الكريم ميرغني كان سفير العهد الديموقراطي في بلادنا." ويواصل الإمام الهادي حديثه "وبمرور الأيام تنكشف الحقيقة وتنفضح إذ إنهال عونكم على الإنقلابيين بشكل ملفت خاصة في مجال الأمن والإستخبارات" ويؤكد لعبد الناصر بأنه بإسم الشعب يرفض سيطرة أي جهة خارجية على الشعب السوداني وذلك في قوله "إنني بإسم المعارضة في بلادنا وهي الشعب كله بإستثناء الشيوعيين والموصومين بعدم الولاء للوطن- أرفض أي إجراء أو إقرار يخضع السودان لسيطرة غير سيطرة أبنائه تحت أي شعار.

ولما كان الأنصار وحزب الأمة يمثلون القوة الشعبية والتي يتخوف منها دوما الشيوعيون في الوقوف ضد مشروعهم السياسي والآيديولوجي، كان التركيز على إقصاء قيادتهم جسديا متى ما توفرت الفرصة لهذا وفي عام 1970م، دعا الحزب الشيوعي سلطة نظام مايو (الثوريَّة!) للتدخُّل وتمكين القوى التقدميَّة على قيادة الحركة النقابيَّة تحت شعارات (حاسم حاسم يا ابو القاسم). وعندما تصاعدت الإحتجاجات والمعارضة لنظام مايو من قبل الشعب ممثلا في أحزابه الأمة وجبهة الميناق بحكم توجهه الشيوعي، قام الإنقلابيون بمساعدة الطيران المصري بضرب الأنصار في الجزيرة أبا وودنوباوي بحجة معارضتهم لنظام مايو وفق ميثاق طرابلس للدفاع المشترك بين السودان وليبيا ومصر. كان المسئول المباشر على الطيران الحربي المصري حسني مبارك . كانت حصيلة ذلك الهجوم 12 ألف قتيل من بينهم إمام الأنصار الهادي المهدي والذي قتل وهو في طريقه مغادرا السودان من ناحية الشرق. يصف محمد أحمد محجوب الدور المصري في قصف الجزيرة أبا بقوله "في 27 آذار أمر طائرات الميغ بقصف الجزيرة بالصواريخ، وفي ذلك الوقت لم يكن السودان يملك طائرات ميغ ولا طيارين يستطيعون قيادتها. مما جعل الكثيرين مقتنعين بأن القصف جرى بطائرات مصرية وطيارين مصريين." ويؤكد قوله ببيان صادر من وزارة الخارجية الليبية.

بعد ضرب الجزيرة وصلت الكثير من برقيات التأييد لضرب الأنصار في الجزيرة أبا وودنوباوي بينما خرج الشيوعيون في مظاهرات صاخبة تأييدا "للثورة الظافرة". فمثلا أرسل عبد الخالق محجوب بيانا مؤيدا ما حدث للأنصار جاء فيه " إن تصاعد الصراع السياسي والطبقي في بلادنا والذي اتخذ من الجزيرة أبا وودنوباوي مسرحا له ليس أمرا عابرا لأننا قد إستقبلنا بالفعل نقطة في تطور الحركة السودانية ... نستطيع أن نقول بأنه قد وجهت ضربة قاضية للتنظيم المسلح الرجعي في بلادنا، الضربة أنزلت بمجموع قوى اليمين في بلادنا ساحقة وأضعفت فعاليتها وقدرتها ... إن أي تقليل من شأن ما جرى يؤدي إلى التقليل أيضا من فرص العمل الثوري ومكانته في هذه الظروف وإن الضربة التي وجهت للتنظيم تفتح السبل أكثر من أي وقت مضى نحو حركة الجماعة الثورية بصورة حاسمة وفي مستويات أعلى الدرجات مما كانت عليه قبل معركتي أبا وودنوباوي كما يؤدي إلى تعاظم دور الحزب الشيوعي السوداني في الحياة السياسية"!!!هذا هو موقف الحزب الشيوعي وزعيمه من الأنصار وحزب الأمة والذي يؤكد على ضرورة تصفيتهم جسديا حتى يتعاظم دور الحركة الشيوعية ودور الحزب الشيوعي في السودان. وهو إتجاه عكس ما ينادي به الحزب في أدبياته والتي دائما تكتب أو تنقح بعد وقوع الأحداث والتأكد من خطئها كما جاء في مجلة (الشِّيوعي) "أن تحرير الجَّماهير العاملة من نفوذ الطبقات الرَّجعيَّة لا يتمُّ بقرار إداري تصدره السُّلطة .. (و) أن التنظيمات الدِّيموقراطيَّة ليست أجهزة رسميَّة، بل أدوات شعبيَّة في يد الجَّماهير، ويجب أن تظلَّ كذلك، وقد ناضل الحزب الشِّيوعي فى كلِّ الظروف لتحافظ تلك التنظيمات على هذه الصِّفة" (م/الشيوعى، ع/134). نواصل بإذن الله في الحلقة الرابعة

علي عبد الرحمن الأمين؛ الدِّيموقراطيَّة والاشتراكيَّة في السودان، ص 40
Richard Cockett 2010, Sudan: Darfur and the failure of an African State.Yale University Press, London. P 63.
محمد أحمد محجوب في كتابه "الديمقراطية في الميزان" (ص 261).

عمر مصطفى مكي: تأملات ماركسية في نهج القيادة الحالية للحزب الشيوعي السوداني، مطبعة جامعة الخرطوم ص 151

الخميس، 2 مايو 2013

المطامع المصرية ونظام الحكم في السودان -1



عبد الله محمد قسم السيد
 Uppsala - Sweden

التنوع والتعدد الذي يميز المجتمع السوداني وعدم مقدرة النخبة المستعربة التي سيطرت على السلطة والثروة فيه منذ إستقلال البلاد لا يمكن فهمه بعيدا عن الدور الذي تلعبه القوى الإقليمية والدولية. فالموقع الإستراتيجي للسودان تاريخيا جعله محط أنظار العالم القديم حين كان حلقة الوصل بين شمال أفريقيا وجنوب أوروبا في علاقاتهما مع وسط وجنوب القارة من جهة وبين غرب أفريقيا وقارة آسيا في الشرق من جهة أخرى. أما في التاريخ الحديث فإن موقعه الإستراتيجي شكل أهمية أخرى تتعلق بالمياه بإعتباره الأكبر مساحة في حوض النيل مما يشكل مخرجا لمشاكل نقص الغذاء عالميا كما رأت منظمة الزراعة العالمية وبإعتباره مطلا على واحد من أهم ممرات البترول من الخليج العربي إلى الغرب قبل أن يصبح هو نفسه دولة منتجة له. لعبت العوامل الخارجية دورا في قيام الدولة المهدية وتوحيد كلمة السودانيين بمختلف إنتماءآتهم القبلية والثقافية عندما كان التفكير للقيادة يشمل النظرة الشمولية المستوعبة للبعد اإستراتيجي للبلاد وأن نفس هذه العوامل قادت إلى سقوطها عندما ضاقت رؤية القيادات وانحصرت في إطارها القبلي والذاتي. وفي واقعنا المعاصر يعيش الشعب السوداني نفس التجاذب بين التفكير القومي والتقوقع في المصالح القبلية أو الجهوية أو الشخصية في وجود تلك العوامل الخارجية ولكنه افتقد القيادة السياسية القوية الإرادة والشكيمة مما كان نتيجيته المأساوية إنقسام السودان إلى دولتين كما أنه أصبح مهدد أن ينقسم إلى أكثر من ذلك. في تحليلنا لهذه العوامل الخارجية سنأخذ مصر كمثال.

لا يمكن معرفة سقوط فترات الديموقراطية في السودان والتي كان على رأسها جميعا حزب الأمة، بمعزل عن المطامع المصرية في السودان تاريخيا والتي كان حزب الأمة يري فيها إستعمارا جديدا للسودان تحت دعاوى وحدة وادي النيل تارة والهوية العربية الإسلامية تارة أخرى. فمنذ سقوط الدولة المهدية بتعاون مباشر بين مصر وبريطانيا ظل الأنصار ثم لاحقا حزب الأمة يرى كل محاولاته لتحقيق سودان مستقل يسير في إتجاه التنمية والوحدة والإستقرار تصطدم بدعاوى مصر بأحقيتها في أراضي السودان وفي الحفاظ على مصالحها التاريخية وهي تعني بجانب ذلك مياه النيل. لهذا لم يستمر أي وضع ديموقراطي في السودان بإعتبار أن أي إستقرار سياسي معناه تنمية ومعناه إستغلال لمياه النيل يؤدي إلى نقص حقها التاريخي خاصة إذا كان هذا النظام الديموقراطي يقوده حزب الأمة الذي يرى ضرورة التعامل بهدف المصلحة المشتركة ين البلدين. فقد وضح من كثير من المفاوضات بينهما خاصة فيما عرف بميثاق الإخاء في آخر فترة ديموقراطية بين عامي 1986 و1989م. وحتى ندرك أبعاد هذا التدخل فإننا نرجع إلى فترة ما قبل الإستقلال تاركين ما قبلها والتي كان فيها الدور المصري مكشوفا حين قاد إلى سقوط الدولة المهدية تحت الإستعمار البريطاني.
            الدور المصري في السياسة السودانية بهدف تأمين المصالح الإقتصادية لها أمر لم يعد خافيا على المواطن السوداني البسيط ناهيك عن من أصبحت حرفته السياسة من قادة الرأي والفكر في السودان. فإن كان في السابق البحث في هذا التدخل يمر بجوانب عاطفية ممثلة في وهم الثقافة العربية الإسلامية إلا أنه لم يعد كذلك مع بدايات القرن الواحد وعشرين حيث يشهد العالم كله التمركز حول الذات ومصالحها ولم تعد العاطفة وحدها هي التي تحركه. هذا الأمر ينطبق خاصة على شعب السودان الذي كان يتعامل بحسن نية تسبقها العاطفة والطيبة تجاه الآخر خاصة إذا كان هذا الآخر أجنبيا. ولكن خلال العقدين الأخيرين تغيرت هذه الصورة إلى ما يكاد يكون نقيضها بفضل عوامل عديدة لم تخرج جلها عن عباية السياسة والإقتصاد. فخروج أعداد كبيرة من السودانيين للعمل بدول النفط العربي وإحتكاكهم بجنسيات أخرى لا تفهم في العاطفة الإنسانية إلا ما تأتي به من مصالح إقتصادية، جعل الكثير منهم يعيد النظر في تعاملاتهم مع الآخرين والبدء في ربط معاملاتهم مع الآخرين بمصالحهم الإقتصادية. سارع في هذا التوجه إنقلاب الجبهة الإسلامية أو ما يعرف الآن بنظام الإنقاذ حينما جرد تعامله مع شعبه من قيم الرحمة والعاطفة الإنسانية المجردة من خلال فقه التمكين الذي برع فيه الترابي للدرجة التي وصل فيها المواطن أن يعمل ما يحقق مصلحته الفردية ممثلة في مصلحته الإقتصادية المباشرة أو مصلحة نظامه الحزبي حتى لو كان الأمر يتطلب أن يتجسس الأخ على أخيه أو يضحي به. لهذا لم يعد مصطلح "الطيبة" لدى مفهوم أبناء مصر هو السائد وسط السودانيين بل أصبح منهم من هو أكثر "فهلوة" وإستهبالا لتحقيق مصالحهم الإقتصادية منهم. هذا الواقع في المعاملات لم يقتصر على الأفراد ولكنه أصبح جزءا من قيم ثقافة جديدة تتمدد في المجتمع سرعان ما امتزجت بالثقافة السياسية لتصبح نظرة الفرد السياسية تستند على المكاسب السياسية وإن كانت تغلب عليها النظرة الحزبية بدلا عن مصلحة الوطن كما تقول حالة نظام الإنقاذ في تعامله الخارجي: في وسطه الإقليمي ممثلا في مصر والدولي ممثلا في علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية. ففي سبيل أن يستمر نظام الإنقاذ في الحكم تنازلت قياداته عن أجزاء من أراضيه في شماله الشرقي لمصر ووافقوا على إنفصال الجنوب رضوخا لرغبات الغرب أما بسبب دارفور فقد باع نظام الإنقاذ معلومات استخباراتية عن مسلمين في السودان تحت دعوى محاربة الإرهاب حتى يجنب رئيسه المحاكمة الدولية.[1]

الحديث عن المطامع المصرية في السودان يرجع إلى قدم تاريخ هذه المنطقة من العالم ومع ذلك فإننا سنركز في دراستنا هذه على الفترة التي تلت إستقلال السودان في منتصف العقد الخامس من القرن العشرين. في هذه الفترة والتي توجهت فيه كل دول العالم المستعمرة نحو إستقلالها عملت الحكومة المصرية على فرض إنضمام السودان إليها من خلال دعمها للمنادين بوحدة وادي النيل. فقبل إعلان إستقلال السودان من بريطانيا ومصر كانت هناك فترة حكم ذاتي مدتها ثلاثة أعوام تحددت وفق مشروع الحكم الذاتي الذي اقترحه الحاكم العام على دولتي الحكم الثنائي. أشار مشروع الحاكم العام البريطانى للحكم الذاتى إلى تكوين:
1- مجلس وزراء سودانى يكون مسئولا امام البرلمان ويختار البرلمان رئيس الوزراء الذى يعين الوزراء
2- تشكيل البرلمان السودانى من مجلس نواب من 97 عضو منهم 40 بالانتخاب المباشر و54 بالانتخاب غير المباشر وثلاثة من الخريجين، وكذلك مجلس شيوخ يتكون من 50 عضوا ينتخب منهم 30 من المحليات ويعين الحاكم العام العشرين الاخرين.
جاءت الموافقة المصرية على هذا المشروع بعد إجتماع فى 15 اغسطس 1952 لمجلس قيادة ثورة يوليو في مصر حين أصدر قرارات وافق فيها على مشروع الحكم الذاتي وإعتراف مصر بحق السودان فى تقرير مصيره وفي نفس الوقت دعوة احزاب السودان جميعا ألى مصر للتفاهم معهم حول مشروع  دستور الحكم الذاتى. واصل الجانبان البريطاني والمصري مفاوضاتهما  واتفقا فى 21 فبراير من عام 1953م على إقامة الحكم الذاتى وممارسة السودانيين حق تقرير المصير على أن تقوم الجمعية التاسيسية التى سيتم انتخابها بالعمل على تقرير مصير السودان كوحدة لاتتجزأ وأن تقوم بوضع دستور للسودان بجانب وضع قانون لانتخاب برلمان سودانى دائم وتقرير مصير السودان إما في إتحاد مع مصر أو الاستقلال التام عنها.
وحتى تتحقق لها رؤيتها في أحقيتها في أرض السودان قامت مصر بتوحيد الاحزاب الداعية الى الاتحاد مع مصر بدعوتهم جميعا إلى القاهرة. هذه القوى السياسية هي: الجبهة الوطنية براعاية السيد على الميرغنى زعيم الطائفة الختمية، وحزب الاشقاء بزعامة اسماعيل الازهرى وفصيل آخر من حزب الاشقاء برئاسة محمد نور الدين وحزب الاحرار الاتحاديين. بالفعل توحدت هذه القوى السياسية فى حزب واحد فى نوفمبر 1952 أطلق عليه إسم الحزب الوطنى الاتحادى  وتم اختيار الازهرى رئيسا له ومحمد نور الدين نائبا له. ولم يفت بالطبع الهدف الأساسي في تجميع هذه القوى في حزب واحد حيث نص ميثاق الحزب الوليد على جلاء الانجليز من السودان وقيام اتحاد مع مصر عند تقرير المصير.

بدأت مصر على الفور في تنفيذ ما أتفق عليه وأصدرت قرارا بتكليف الصاغ صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة بالاشراف على تنفيذ تلك القرارات. كان الهدف الأساسي لصلاح سالم هو الوصول إلى إتحاد مع السودان رحلته التاريخية المشهورة الى الجنوب فى ديسمبر 1952 وتنقله بين مديرياته راقصا مع سكان الجنوب عاريا. أما في الشمال فكان لدعمه المادي للحزب الوطنى الاتحادى فى الانتخابات الدور الكبير في فوز الإتحاديين بالاغلبية فى الجمعية التاسيسية. فقد فاز الحزب الوطني الديموقراطي ب 51 مقعدا من 97 مما خوله للحكم منفردا برئآسة إسماعيل الأزهري والذي قام بتشكيل الوزارة من 12 وزيرا بينهم ثلاثة جنوبيين. فى 9 يناير 1954 قامت الوزارة الجديدة باداء اليمين الدستورية أمام الحاكم العام لتبدأ في نفس اليوم الفترة الانتقالية ومدتها ثلاث سنوات كما نصت إتفاقية الحكم الذاتى وفي نفس الوقت إختارت حكومة الأزهري أن يكون يوم الاول من مارس من عام 1954م موعدا لافتتاح البرلمان السودانى. وبطبيعة الحال كان لابد أن يحتفل السودانيون بيوم الإفتتاح الذي دعو له ضمن دول أخرى مصر حيث كان اللواء محمد نجيب على راس الوفد المصرى المشارك فى هذه الاحتفالات. بدا واضحا لحزب الأمة أن المساعدات المادية والإعلامية التي قدمتها مصر بعد توحيدها للتيار الوحدوي كانت السبب المباشر في فوز الحزب الوطني الإتحادي لهذا قرر الحزب إسماع صوته وصوت بقية الشعب الرافض للوحدة، للنظام المصري من خلال مظاهرات منظمة في المطار عند مقابلة اللواء محمد نجيب وهو أمر يكاد يكون حاليا هو المعيار الديموقراطي الأول في معرفة رأي الشعوب. ولكن الحكومة السودانية وقتئذ تجاهلت موقف الإستقلاليين هذا وعملت على إخفاء الحقيقة عن الإعلام العالمي وحولت خروج وفد الزعيم المصري من جانب آخر من المطار مما أدى إلى صدامات دامية بين الأنصار والشرطة كانت بمثابة نقطة تحول في موقف إسماعيل الأزهري والبدء في التحول من فكرة الإتحاد مع مصر. وبذلك كانت تلك الأحداث هي الشرارة الأولى التي اندلعت لتقود شعب السودان للإستقلال.

ظلت حكومة الحزب الوطني الإتحادي بقيادة إسماعيل الأزهري بعد أن إنتهت فترة تلك الأحداث تتأرجح بين الأستقلال التام للسودان وبين الإتحاد مع مصر وإن كانت أقرب في توجهها العام تحو خيار الإتحاد خاصة أن فوزها في الإنتخابات يرجع إلى الدعم المادي والسياسي الذي قدمته مصر. وتحت الضغط الشعبي بسبب الرفض القوي لهذا التوجه من قبل معظم الشعب السوداني في مناطق السودان خارج العاصمة بقيادة حزب الأمة، لم يكن أمام إسماعيل الأزهري إلا أن يقوم بزيارات متواصلة لإستطلاع رأي المواطنين خارج العاصمة فيما يتعلق بموضوع الوحدة مع مصر. في هذه الفترة أيضا بدأ الخلاف داخل الحزب الوطني الإتحادي يتصاعد بين الموالين للسيد علي الميرغني والأزهري ويأخذ منحى آخر يدورحول الاستقلال وليس الاتحاد مع مصر. كان يقود هذا التيار بعض الوزراء في حكومة الازهري على رأسهم خلف الله خالد، وزير الدفاع والدرديري محمد عثمان مستشار السيد على الميرغني. ومن خلال الزيارات التي قام بها الأزهري لمناطق عديدة تأكد له ألا مفر من إعلان الإستقلال تلبية لرغبات الغالبية العظمى من السودانيين الذين قابلوه بهتافات الإستقلال والرفض للوحدة. وهذا ما حدث بالفعل حيث إستجابت الحكومة لرغبة مواطنيها ولا يهم التفسير الذي يقول به البعض وهو أن الأزهري في رؤيته أو دعوته للإتحاد مع مصر كان تكتيكا سياسيا هدفه الحصول على موافقة مصر في القبول بتقرير المصير وبعدها يعلن الإستقلال. وهو كما تلاحظ عزيزي القارئ تصور لا ينسجم مع الواقع فقد ظل الإتحاديون لفترة زادت عن الثلاثين عاما ينادون بهذه الوحدة بل إن الزعيم الأزهري كثيرا ما أشار إلى أن يكون السودان ضمن حدود التاج المصري بينما المنادون بإستقلال السودان خاصة حزب الأمة ظلوا متمسكين بهذا الإستقلال وكان شعارهم "السودان للسودانيين" حتى قال فيه الوحدويون بأنه شعار حق أريد به باطل. المجموعة التي انشقت عن الأزهري كونوا حزبا جديدا سموه حزب الشعب الديموقراطي وبدأوا بالإتصال بحزب الامة الداعي للإستقلال ورفضوا أي اتحاد مع مصر كما كان يعمل الازهري. الأمر الذي يهدد وجوده خاصة في ضوء بعض التكهنات التي تقول بتقارب بين السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني والذي بالفعل قد حدث حينما اجتمعا وأصدرا بيانا مشتركا جاء فيه "يسعدنا ان نعلن تصميمنا القوي لنقف متحدين من اجل مصلحة السودان، وكل ما يحقق له السعادة والحرية والسيادة الكاملة لشعبه". وهو لقاء خاف منه الأزهري أن يطيح به قبل أن يربط إعلان الإستقلال بإسمه بعد أن تأكد له إمكانية إعلانه من داخل البرلمان. لهذا فإن مواقف حزب الأنة الرافضة لأي نوع من الإتحاد مع مصر بجانب الصراع بين الأزهري من جانب والمنشقين عن حزبه والذين هم في الأساس موالين للميرغني خاصة ميرغني حمزة المقرب جدا من السيد علي الميرغني والذي أصبح منافسا خطيرا للأزهري، أدى إلى أن يغير الأزهري رؤيته من الإتحاد مع مصر إلى الإستقلال التام. من هذا المنطلق نستطيع أن نقول إن الخلاف بين الأزهري والسيد على الميرغني لم يكن خلافا فكريا فلسفيا كما يصوره البعض والدليل رجوع الأزهري مرة أخرى إلى أحضان الطائفية وفي ظرف بدت فيه العلاقة بين الحكومة السودانية والمصرية تشهد تدهورا خطيرا حين بدأت تتصاعد مشكلة حلايب مرتبطة بمفاوضات مياه النيل والمساعدات الأمريكية. 
نواصل في الحلقة القادمة الاستقلال واستمرارية الخبث السياسي المصري لزرع الفتنة بين أحزاب السودان

الخميس، 11 أبريل 2013

يوميَّات إجهاض الإنتفاضة .. مُلخَّص وقائع إجتماعات ما بعد 6 أبريل



    بقلم: عمر الدقير..

    مقدمة
    بحكم عضويته في الأمانة العامة للتجمع النقابي ممثلاً لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم، أُتيح لكاتب هذه السُّطور أن يشارك في جميع المفاوضات والاجتماعات التي عقدها التجمع (بشقيه النقابي والحزبي) للاتفاق على تشكيل السُّلطة الانتقالية وتفصيل مهامها، وذلك بعد نجاح الانتفاضة الشعبية المجيدة في إسقاط نظام مايو صباح السَّادس من أبريل 1985.
    يعتقد الكثيرون – وكاتب هذه السُّطور منهم – أنَّ تلك الاجتماعات وما تمخضت عنه من تشكيل هياكل السُّلطة الانتقالية كانت إجهاضاً مُبكِّراً للانتفاضة، لأنَّ الشعارات التي صاغتها جماهير الانتفاضة والميثاق الذي وضعه قادتها كانت تحتاج لإرادة سياسية فاعلة تؤمن بها وتُحيلها إلى واقع خلال فترة الانتقال .. لكنَّ الذي حدث أنَّ تلك الاجتماعات تمخضت عن تكوين السُّلطة الانتقالية من مجلسين بعُدت الشُّقة بينهما وبين شعارات الانتفاضة وميثاقها .. كما شهدت تلك الاجتماعات خرق ميثاق الانتفاضة، قبل أن يتلاشى صدى هتافاتها، وذلك بتقليص الفترة الانتقالية من ثلاثة أعوام لعامٍ واحد والقبول المجَّاني غير المبرر بالمجلس العسكري كرأسٍٍ للدولة، والأنكى من ذلك، القبول بأن تكون سلطة التشريع عند هذا المجلس وإعطائه حق اختيار رئيس الوزراء وبعض الوزراء. أمّا مجلس الوزراء، فقد أختير أعضاؤه بالترضيات والمناورات والعصبيات المهنية دون استدعاء وتمحيص المواقف السابقة لمن طُرحت أسماؤهم للاختيار وفي بعض الحالات دون الإلتزام بمعايير الاختيار، التي تم الاتفاق عليها، رغم قصورها.
    مساء 6 أبريل 85
    بعد إعلان الجيش إنحيازه للشعب وخروج قادة النقابات المعتقلين من سجن كوبر، بعد أن تهاوت أبوابه تحت ضربات الثوار، عُقد أول إجتماع علني لقيادة التجمع النقابي بدار أساتذة جامعة الخرطوم بمشاركة ممثلي النقابات التي شكلت النواة الأولى للتجمع النقابي ونظّمت وأعلنت الاضراب السياسي وهي نقابات المحامين، المهندسين، الأطباء، المصارف، أساتذة جامعة الخرطوم، التأمينات العامة واتحاد طلاب جامعة الخرطوم.
    تقرر في هذا الإجتماع تكوين الأمانة العامة للتجمع النقابي من عضوين من كل نقابة من النقابات الست بالإضافة لإتحاد طلاب طلاب جامعة الخرطوم .. تم اختيار د. الجزولي دفع الله (نقابة الإطباء) رئيساً للتجمع، م. عوض الكريم محمد أحمد (نقابة المهندسين) أميناً عاماً وميرغني النصري (نقابة المحامين) ناطقاً رسمياً، بينما أُسندت أمانة الإعلام لنقابة أساتذة وإتحاد طلاب جامعة الخرطوم.
    كلّفت الأمانة العامة للتجمع النقابي وفداً من أعضائها لمقابلة الفريق سوار الذهب وزملائه، في نفس الليلة، لاستجلاء حقيقة موقف قيادة الجيش.
    مساء 6 أبريل 85
    وصل وفد الأمانة العامة للتجمع النقابي للقيادة العامة حوالي الساعة الحادية عشر ليلاً، حيث انخرط في اجتماع مع الفريق سوار الدهب ومعه بعض الضباط.
    تحدَّث د. الجزولي عن الواقع المُزري الذي دفع الشعب للثورة بقيادة التجمع النقابي ضد نظام مايو مشيراً إلى أنَّ الشعب قدَّم تضحيات كبيرة من أجل حريته وأنَّ انحياز القوات المسلحة إليه قد حقن الدِّماء التي كان شعبنا مستعداً لدفع المزيد منها مهراً لحريته وكرامته.
    أبدى أعضاء وفد التجمع انزعاجهم لعدم صدور قرار بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين (في غير سجن كوبر) بينما رموز النظام المباد لم يتم التحفظ عليهم.
    أشاد الفريق سوار الدهب بالإنتفاضة الشعبية وقيادة التجمع “الواعية” لها وأكَّد أنَّ ذلك كان دافعاً لهم لاعلان انحياز الجيش لخيار الشعب، كما أقر بقصور القرارات التي صدرت وعزا ذلك القصور لتسارع الأحداث ووعد بتصحيحه .. ثم تحدَّث عن المخاطر الكبيرة التي تهدِّد البلاد والتي تتطلب تضافر جهود الجميع وختم حديثه مؤكِّداً زهدهم في السلطة بقوله: “الحُكُم ده شَعَراً ما عندنا ليهو رقبة”، وأكَّد استعداد الجيش لتسليم السُّلطة للتجمع فوراً إذا كانت هذه هي رغبته (لم يُعلِّق أحدٌ من أعضاء وفد التجمع على هذا العرض).
    تم الاتفاق على مواصلة الاجتماعات بين الطرفين يوم الأحد السابع من أبريل.
    عاد بعض أعضاء الوفد إلى دار أساتذة جامعة الخرطوم وأبلغوا إجتماع الأمانة العامة للتجمع النقابي، الذي ظل منعقداً حتى وقتٍ متأخر من الليل، بنتائج إجتماعه مع سوار الدهب.
    ساد شعور بالإرتياح وسط قادة التجمع النقابي، لكنهم قرَّروا الإستمرار في الإضراب السياسي لحين الإتفاق على إجراءات تسليم السُّلطة.
    صباح 7 أبريل 85
    حضر عددٌ كبير من ممثلي الأحزاب السِّياسية والنقابات، التي لم تتمكن من التوقيع على ميثاق الانتفاضة فجر السَّادس من أبريل، إلى دار أساتذة جامعة الخرطوم وأعلنوا موافقتهم على الميثاق (من الأحزاب التي انضمت لميثاق الإنتفاضة في هذا اليوم: حزب البعث، الحزب الناصري، الحزب الاشتراكي الإسلامي، حزب المؤتمر الافريقي، حزب التجمع السياسي لجنوب السودان، حركة اللجان الثورية، حزب سانو، حزب العمَّال والمزارعين وجماعة الإخوان المسلمين جناح صادق عبد الله عبد الماجد – كانت أحزاب الأمة والاتحادي والشيوعي قد وقَّعت مع التجمع النقابي على الميثاق فجر السَّادس من أبريل).
    تحرَّك أعضاء التجمع الوطني إلى القيادة العامة في عددٍ يزيد على الخمسين شخصاً يمثلون النقابات والأحزاب المكوِّنة للتجمع الوطني.
    عند وصول أعضاء التجمع الوطني إلى القيادة العامة قبل منتصف النهار بقليل، كانت هناك مظاهرة للإسلاميين أمام مبني القيادة العامة تؤيِّد استلام الجيش للسلطة وتدعو لرفع الإضراب، بينما كان قادة هذه المظاهرة قد أُدخلوا إلى إحدى القاعات بمبنى للقيادة حيث أُحْسِن استقبالهم واجتمع بهم الفريق سوار الذهب شخصياً.
    تم إدخال أعضاء التجمع الوطني في قاعة أخرى للإجتماع مع ممثلي الجيش .. ترأس الإجتماع العميد عثمان عبد الله وكان معه على المنصة العقيد حقوقي أحمد محمود والعقيد عبد العزيز خالد.
    حضر هذا الإجتماع علي عثمان محمد طه وعثمان خالد مضوي وأعلنا أنهما يمثلان الجبهة الإسلامية القومية (كانت تلك هي أول مرة يُعلَن فيها اسم هذا التنظيم).
    اعترض المهندس عوض الكريم محمد أحمد على وجود علي عثمان وعثمان خالد في الاجتماع باعتبارهما وجماعتهما كانوا جزءً من نظام مايو حتى قبيل سقوطه .. عثمان خالد ردَّ على المهندس عوض الكريم بمداخلة طويلة، كان ضمن ما قاله فيها: “هي مايو ذاتا الجابا منو” .. رئاسة الاجتماع التزمت الصَّمت ولم تعلق على هذا السِّجال، بينما لم يجد المهندس عوض الكريم بين الحضور من يساند وجهة نظره .. إستمر الإجتماع.
    طالب د. عمر نور الدايم بإجراء الإنتخابات خلال ستة شهور وأيَّده في ذلك سيد أحمد الحسين .. عثمان خالد طالب قيادة الجيش بتشكيل حكومة تكنوقراط وإجراء الانتخابات في أسرع وقت ممكن .. طالب قادة التجمع النقابي باحترام ميثاق الانتفاضة الذي نصَّ على أن تكون مدة الفترة الانتقالية ثلاث سنوات.
    أُختتم الاجتماع بالاتفاق على تمثيل الجيش بعضوٍ واحد في مجلس السيادة، وإحالة قضيتي مدة الفترة الانتقالية وتشكيل الحكومة للتجمع الوطني ليقرر فيهما.
    صباح 8 أبريل 85
    أعضاء الأمانة العامة للتجمع النقابي يتوافدون على دار نقابة الأطباء، ويبدأون اجتماعاً لتقييم الموقف وتحديد الخطوات القادمة.
    وصل العميد عبد العزيز الأمين مع مجموعة من ضباط الجيش إلى دار الأطباء وانخرطوا في نقاشات منفردة وجماعية مع أعضاء الأمانة العامة للتجمع النقابي مارسوا خلالها ضغوطاً مكثفة عليهم لرفع الإضراب .. أشاروا لحساسية الوضع الأمني حسب معلوماتهم الاستخباراتية كما أشاروا لصعوبة الوضع الاقتصادي المعروفة، وأكَّدوا مرة أُخرى عدم رغبة الجيش في الإحتفاظ بالسُّلطة.
    دخل أعضاء الأمانة العامة في اجتماع مغلق للنظر في استمرار الإضراب أو رفعه.
    وردت معلومات للإجتماع تفيد بتجمع جماهيري كبير بشارع الجامعة يطالب برفع الإضراب.
    بعد مداولات عاصفة قرر الإجتماع رفع الإضراب، مع تسجيل إعتراض من نقيب المحامين ميرغني النصري على هذا القرار.
    قرر الإجتماع تأجيل إعلان قرار رفع الإضراب لحين الإجتماع بقيادة الجيش مرة أخرى والحصول على تأكيدات بتسليم السُّلطة للتجمع الوطني.
    ظهر 8 أبريل 85
    إنتقل أعضاء الأمانة العامة للتجمع النقابي إلى القيادة العامة حيث عقدوا إجتماعاً مع ممثلين لقيادة الجيش برئاسة العميد عثمان عبد الله.
    بعد نقاش مطول، تمخض الاجتماع عن تأكيد ممثلي قيادة الجيش عدم رغبة الجيش في الإحتفاظ بالسُّلطة، الإتفاق على تمثيل الجيش في مجلس السِّيادة الانتقالي ورفع الاضراب السياسي فوراً.
    تم استدعاء طاقم من التلفزيون والإذاعة إلى القيادة العامة لتسجيل بيان رفع الإضراب الذي تلاه د. الجزولي دفع الله .. تم التسجيل والتصوير بحضور جميع أعضاء الأمانة العامة للتجمع النقابي استجابة لطلب ممثلي قيادة الجيش .. (تمت أول إذاعة للبيان من خلال نشرة أخبار راديو أمدرمان في الثالثة من بعد ظهر نفس اليوم – كان التلفزيون يبث إرساله في الفترة المسائية فقط).
    قوبل قرار رفع الإضراب بتباين في وجهات النظر بين قواعد النقابات.
    مساء 9 أبريل 85
    إجتمع ممثلو الأحزاب السياسية والنقابات المكونة للتجمع الوطني بدار أساتذة جامعة الخرطوم، لمناقشة تفاصيل مهام الفترة الانتقالية ومدتها وكيفية تشكيل مجلسي السيادة والوزراء.
    حدثت مشادة كلامية في بداية الاجتماع بين د. عثمان عبد النبي، أحد ممثلي الإتحادي الديموقراطي، والأستاذ علي أبوسن الذي حضر الإجتماع برفقة د. خالد المبارك ممثلَين للوطني الإتحادي .. د. عثمان عبد النبي أكَّد ألاَّ وجود لحزب يسمى الوطني الإتحادي بعد اندماجه مع حزب الشعب الديموقراطي عام 68 .. إستمر الإجتماع في وجود ممثلي الحزبين.
    أبرز مهام الفترة الإنتقالية التي حدَّدها الإجتماع هي: تصفية آثار مايو، معالجة الضائقة المعيشية، حل قضية الجنوب، وضع قانون إنتخابات يتيح تمثيل القوى الحديثة تمثيلاً راجحاً وتنظيم الإنتخابات بنهاية الفترة الإنتقالية.
    تم الإتفاق على دستور عام 56 المعدَّل عام 64 ليكون حاكماً خلال الفترة الإنتقالية.
    تم الإتفاق على تكوين مجلس سيادة من خمسة أشخاص وحكومة تضم 15 حقيبة وزارية.
    قدَّم د. عدلان الحردلو إقتراحاً بأن يُكوَّن مجلس السِّيادة من شخصين مدنيَيْن بالإضافة لثلاثة أشخاض يمثلون “ثلاثة بنادق” وهي الجيش، الشرطة والحركة الشعبية بزعامة د. جون قرنق.
    أصرَّ ممثلو حزبي الأمة والإتحادي الديموقراطي على تقليص الفترة الإنتقالية لعام واحد بدلاً من ثلاثة أعوام وسط معارضة شديدة من قادة النقابات.
    دخل إلى قاعة الإجتماع أحد النقابيين ليبلغ المُجتمعين أنَّه تم الإعلان من خلال نشرة أخبار التلفزيون عن تشكيل المجلس العسكري الإنتقالي برئاسة سوار الدهب وعضوية ضباط آخرين ليكون رأساً للدولة بسلطات سيادية وتشريعية.
    أعلن ممثلو أحزاب الأمة والإتحادي الديموقراطي والإخوان المسلمون (جناح صادق عبد الماجد) تأييدهم لقرار تشكيل المجلس العسكري الإنتقالي.
    تباينت وجهات نظر القادة النقابيين من القرار .. قُدمت مداخلات حادَّة من بعض القادة النقابيين ضد قرار تشكيل المجلس العسكري واتهامات بالمؤامرة ومحاولة الإلتفاف على الإنتفاضة.
    بعد مداولات ساخنة، استمرت إلى ما بعد منتصف الليل، قرر الإجتماع قبول تشكيل المجلس العسكري الإنتقالي ليكون رأساً سيادياً للدولة بشرط أن تكون سلطة التشريع عند مجلس الوزراء الذي سيشكله التجمع.
    تراجع القادة النقابيون الرافضون لتقصير الفترة الإنتقالية عن موقفهم، بعد إعلان تشكيل المجلس العسكري الإنتقالي، ووافقوا على فترة العام الواحد.
    مساء 10 أبريل 85
    إلتأم التجمع الوطني، بشقيه الحزبي والنقابي، في إجتماع بدار نقابة الأطباء لمناقشة كيفية تشكيل الحكومة.
    طُرِح إقتراح باستلهام تجربة جبهة الهيئات في أكتوبر 64، وتكوين حكومة تضم الأحزاب والنقابات .. أُستبعد هذا الإقتراح نسبةً لوجود عدد كبير من الأحزاب والنقابات يصعب تمثيلها جميعاً.
    بعد نقاش مطول تم الإتفاق على الأُسس الآتية ليتم بناءً عليها إختيار أعضاء الحكومة:
    - عدم الإنتماء الحزبي
    - الحس الوطني الصادق
    - النزاهة والأمانة
    - الكفاءة والقدرة على القيادة والمبادرة
    - عدم شغل أي منصب دستوري خلال عهد مايو المباد
    صباح 12 أبريل 85
    إلتأم التجمع الوطني، بشقيه الحزبي والنقابي، في إجتماع بدار نقابة الأطباء لمواصلة النقاش حول كيفية تشكيل الحكومة الإنتقالية.
    تم الإتفاق على تحديد عدد الحقائب الوزارية وأسمائها (15 حقيبة وزارية).
    قرر الإجتماع أن تضم الحكومة ثلاثة وزراء جنوبيين على الأقل.
    اقترح صمويل أرو (ممثل حزب التجمع السياسي لجنوب السودان) استثناء الوزراء الجنوبيين من شرط “عدم شغل أي منصب دستوري خلال عهد مايو المباد”، مشيراً إلى أنَّ هذا الشرط إذا طُبِّق على الجنوبيين “ما حتلقوا سياسي جنوبي واحد يشترك في هذه الحكومة”.
    وافق الإجتماع على اقتراح صمويل أرو، رغم إعتراض د. لام أكول وبعض النقابيين.
    قرر الإجتماع أن يكون أحد الوزراء الجنوبيين نائباً لرئيس الوزراء.
    مساء 13 أبريل 85
    إلتأم التجمع الوطني، بشقيه الحزبي والنقابي، في اجتماع بدار نقابة الأطباء لمواصلة النقاش حول تشكيل الحكومة الإنتقالية.
    قُدِّم اقتراح بترشيح الأستاذ ميرغني النصري لرئاسة الحكومة.
    إعترض محجوب عثمان (ممثل الحزب الشيوعي) على ترشيح ميرغني النصري باعتباره منتمٍ حزبياً.
    قُدم اقتراح آخر بترشيح د. الجزولي دفع الله لرئاسة الحكومة.
    شهد الإجتماع انقساماً واضحاً في تأييده للمرشَّحَيْن، ولم يتم الإتفاق على أحدهما.
    بعد نقاشٍ طويل، قرر الإجتماع أن يُقدَّم المرشحان للمجلس العسكري ليختار واحداً منهما.
    تم ترشيح د. حسين أبو صالح لوزارة الصحة والرِّعاية الإجتماعية وتمت الموافقة عليه بالإجماع.
    تم ترشيح د. عدلان الحردلو لوزارة الإعلام، ولكنه اعتذر بحجة أنَّ نقابة أساتذة جامعة الخرطوم قررت ألّا يشارك أيٌ من أعضاء لجنتها في الحكومة الإنتقالية.
    أقر الإحتماع أن ترشح نقابة أساتذة جامعة الخرطوم من تراه مناسباً لشغل وزارة الإعلام.
    صباح 15 أبريل 85
    إلتأم التجمع الوطني، بشقيه الحزبي والنقابي، في إجتماع بدار نقابة الأطباء لمواصلة النقاش حول تشكيل الحكومة الإنتقالية.
    أُبلِغ الإجتماع بقرار المجلس العسكري اختيار د. الجزولي دفع الله لرئاسة الحكومة.
    تم ترشيح الأستاذ ميرغني النصري لمنصب النائب العام، لكنه اعتذر.
    قرر الإجتماع تكليف نقابة المحاميين بترشيح من تراه مناسباً لمنصب النائب العام.
    رشّحت نقابة أساتذة جامعة الخرطوم د. محمد بشير حامد لوزارة الإعلام والثقافة وتمت الموافقة عليه.
    رشّحت نقابة الديبلوماسيين السَّفير إبراهيم طه أيوب لوزارة الخارجية وتمت الموافقة عليه.
    رشّحت نقابة المهندسين م. عبد العزيز عثمان لوزارة الطاقة والصناعة والتعدين وتمت الموافقة عليه.
    رشّحت جماعة الإخوان المسلمين بشير حاج التوم لمنصب وزارة التربية.
    اعترض د. محمد الأمين التوم بانفعالٍ شديد على ترشيح بشير حاج التوم باعتباره ينتمي لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين.
    أكّد ممثل جماعة الإخوان المسلمين أنَّ بشير حاج التوم غير منتمٍ لأي تنظيم أو حزب.
    لم يجد د. محمد الأمين التوم مسانداً له في اعتراضه .. أُعتُمِد ترشيح بشير حاج التوم وتمت الموافقة عليه وزيراً للتربية.
    رأى حزب الأمة ضرورة وجود د. أمين مكِّي مدني في الحكومة الانتقالية وأيَّده آخرون.
    أجمع المجتمعون على د. أمين مكِّي مدني وزيراً للتشييد والإسكان.
    مساء 16 أبريل 85
    إلتأم التجمع الوطني، بشقيه الحزبي والنقابي، في إجتماع بدار نقابة الأطباء لمواصلة النقاش حول تشكيل الحكومة الإنتقالية.
    بعد استعراض عدة أسماء ومناقشة مدى أهليتها للوزارة، تمت الموافقة على ترشيح عوض عبد المجيد لوزارة المالية والتخطيط الإقتصادي، سيد أحمد السيد للتجارة والتموين وصدِّيق عابدين للزراعة.
    قرر الإجتماع أن تُخصَّص وزارات الرِّي، الخدمة العامة والعمل، النقل والمواصلات للجنوبيين.
    قرر الإجتماع أن يتم اختيار الوزراء الجنوبيين بالتشاور بين الأحزاب الجنوبية.
    تم ترشيح الأستاذ محمود الشيخ لمنصب النائب العام وكُلِّف د. على عبد الله عبَّاس (تربطه به صلة قرابة) بإبلاغه وتأكيد موافقته.
    صباح 18 أبريل 85
    إلتأمت الأمانة العامة للتجمع النقابي في إجتماع بدار نقابة الأطباء.
    أكّد د. على عبد الله عبَّاس أنه التقى الأستاذ محمود الشيخ وأنه موافق على تولي منصب النائب العام وسيحضر هذا الإجتماع لتأكيد موافقته.
    حضر الأستاذ محمود الشيخ وتحدَّث شاكراً التجمع على ثقته فيه، ولكن كانت المفاجأة اعتذاره عن قبول الترشيح لمنصب النائب العام لظروف صحية.
    صباح 20 أبريل 85
    إجتماع بالقيادة العامة بين ممثلي التجمع الوطني والمجلس العسكري للإتفاق النهائي على تشكيل الحكومة .. ترأس الإجتماع العميد عثمان عبد الله.
    إستعرض م. عوض الكريم محمد أحمد ترشيحات التجمع للوزارات المختلفة.
    أعلن عثمان عبد الله، باسم المجلس العسكري، قبولهم للترشيحات.
    بعد التداول، فوَّض الاجتماع المجلس العسكري لاختيار وزيري الدفاع والداخلية (وزير الدفاع من الجيش والداخلية من الشرطة).
    فوَّض الإجتماع المجلس العسكري لاختيار الوزراء الجنوبيين بعد التشاور مع القوي السِّياسية الجنوبية.
    اعترض بعض النقابيين على قرار أيلولة سلطة التشريع للمجلس العسكري .. وبعد أخذٍ ورد توافق المجتمعون على أن تكون سلطة التشريع مشتركة بين المجلس العسكري ومجلس الوزراء.
    تحدَّث معظم الحضور مشيدين بالإنتفاضة ومطالبين بوحدة الصَّف والعمل على تنفيذ شعارات الإنتفاضة.
    22 أبريل 85 – إعلان الحكومة الانتقالية
    أصدر المجلس العسكري قراراً بتشكيل الحكومة الانتقالية وفقاً لترشيحات التجمع الوطني بعد أن أضاف إليها العميد عثمان عبد الله وزيراً للدفاع، الفريق شرطة عبَّاس مدني للداخلية، صمويل أرو للرِّي ونائباً لرئيس الوزراء، بيتر جاتكوث للنقل والمواصلات وأُوليفر ألبينو للخدمة العامة والعمل، بينما لم يتضمن القرار اسم شاغل منصب النائب العام.
    تعيين النائب العام
    تواصلت مشاورات التجمع لاختيار النائب العام بصورة يومية .. تم ترشيح عدة أسماء من بينها عبد الرحمن عبدو، عبد الوهاب أبو شكيمة ومهدي شريف إلاّ أنهم جميعاً اعتذروا.
    استقر رأي التجمع أخيراً على ترشيح كلٍّ من مصطفى عبد القادر، عبد الوهاب بوب وعمر عبد العاطي ليختار المجلس العسكري واحداً من بينهم لمنصب النائب العام ، وكان ثلاثتهم حضوراً في كلِّ اجتماعات التجمع.
    في 26 أبريل 85 أصدر المجلس العسكري قراراً بتعيين عمر عبد العاطي نائباً عاماً.
    تعليق
    كان أوَّل شرطٍ لأممٍ وشعوب تجاوزت كبواتها وهزائمها وحوَّلتها إلى رافعة للنهوض والانتصارات، هو استلهام العِبَر والدُّروس من تجارب الماضي بمراجعتها ووضعها في موازين النقد الشجاع الأمين لتفادي أخطاء الماضي وعثراته واقتحام المستقبل بمصابيح تضىء الطريق .. بغير ذلك يسود قول الفيلسوف الإسباني جورج سانتيانا: “إنَّ الذين لا يقرأون التاريخ، محكومٌ عليهم أن يعيدوه”.

الثلاثاء، 2 أبريل 2013

من ذاكرة التاريخ : الانتفاضة فى مدني : واحداث اعتـقا ل عربة البـروفـسير عثما ن كشـومة:عادل علي صالحمن ذاكرة التاريخ : الانتفاضة فى مدني : واحداث اعتـقا ل عربة البـروفـسير عثما ن كشـومة:عادل علي صالح

مقـدمـة لا بد من لمجة تاريخية خاطفة عن الارض السياسية التى تفجرت فيها الانتفاضة ،وعن كنتور طبيعة تضاريسها ، والبيئة التى عايشتها ، وعن المناخ الحياتي الذي اثر وارتبط ارتباطا وثيقا بحياة كل الناس . النضال ضد دكتاتورية نميري هو فعل تراكمي ، منذ استيلائه على السلطة فى مايو 1969 وسقوطه فى ابريل 1985. الانتفاضة ، بدأت تتبلور وتتشكل فى مخيلة الوعي الوطني ، منذ اعلان سيئة الذكر قوانين سبتمبر 1983 ، وبداية الكفاح المسلح فى الجنوب ، الذي قادته الحركة الشعبية لتحرير السودان . مرجل الغضب الشعبي وصل قمته عند تنفيذ حكم الاعدام على الاستاذ الشهيد محمود محمد طه في 18 يناير 1985. فكانت نقطة الا عـودة للمـد الثوري ضد حكم الطاغية. كان ذلك السبب الرئيسي لتكوين التجمع النقابي فى الخرطوم بعد ان سـيطـرت القوى الوطنية على اتحاد طلاب جامعة الخرطوم ( رفض طلاب حزب الامة المشاركة فى التحالف لوجود الشيوعيين ؟) . وفى ذات الوقت فاز تحالف القوى الوطنية بمقاعد اتحاد طلاب جامعة امدرمان الاسلامية . وفي مدني انفرد مؤتمر الطلاب المستقلين بمقاعد اتحاد طلاب جامعة الجزيرة . دانت السيطرة للقوى الوطنية الطلابية متحالفة ، ومؤتمر الطلاب المستقلين منفردا على معظم الاتحادات بمؤسسات التعليم العالي . في ذات الوقت كانت جماعات الهوس الديني ، الاخوان المسلمين بمختلف مسمياتهم ، يبايعـون الدكتاتور السفاح ويحتفـلون بتنصيبه امـاما للمسلمين . احزاب اخرى معلومة تجلـس قياداتها ، على مقاعد مبطنة بدماء انصارهم ، فى اللجنة المركزية للحزب الحاكم الاتحاد الاشتراكي ، بعد ان ادوا قسم الولاء للتنظيم القائد؟ . فى هذه الفوضي كان السودان يدور في اخر ايام نميري ، من حيث انفجرت الانتفاضة عـشــــية الانتفاضــة المجيــــدة: الزمان ... الجمعـة ... الخـامس من ابرايل 1985 . المكان... مدينة ودمدنى... المدينة الجامعية .. ( النشيشيبة ) .. جامعة الجزيرة تقع على الطرف الشمالي خارج حدود المدينة القديمة ... يحدها من الجنوب طريق مدنى القضارف المؤدى الى كبرى حنتوب ومن الغرب طريق مدنى الخرطوم .. ومن الشرق النيل الازرق ومن الشمال قرية عــترة. دُغُـش صباح ذلك اليوم ...افـقـه يعــبق برائحة دعا ش الثورة التى ســتمـطر بعد حـين على سـوداننا .. الذي لم يهـن يوما علينا .. كما تغنى وردي ... اما بالنسبة لاهـل مايو وســدنتها لم تكن افـق الخـرطوم لتتشـح بذلك الاكفهرار الذي ينذر بهـبوب العاصفة ! ، التي سـوف تـدك حصون الدكتاتورية ... كانت بــوادر خريـف الديمقراطـية فى السودان .. مـترع اوديـة ارضنا اليـباب وسهوله ماءَ وخضرة... بالنسبة لنا ممثلى اتحاد طلاب جامعة الجزيرة .. اتحاد مؤتمر الطلاب المسـتقلين فى التجمع النقابى ( تحت الارض ) والذي كان لنا شرف الدعوة لتكوينه .. الماجد طارق الشيخ الطيب رئيس الاتحاد ، الماجد مرتضى كمال خلف الله السكرتير الاكاديمي ، عادل على صالح سكرتير العلاقات الخارجـية . عبارة عن بداية يوم جديد نواصـل فيه العمل لاسقاط دكـتاتورية مايو . نتابع تنفــيـذ تكاليف اجتماع اليوم السابق .. والاستعداد بعمل الترتيبات الازمة لاجتماع اليوم .. الاجتماعات كانت مرتين فى اليوم وفي حالة انعقاد دائم فى ايام اخــر.. ( لاسـباب امـنية ) يحــدد مكان الاجتماع فى او قبل ساعة من انعـقـاده .. وفــق اجـراءات تحويطية معـينة مـتفق عــليها .. تحــــدد مـنزل كبير المهندسين عبدالحفيظ النور حسـن مكـاننا لانعقاد اجتماع اليوم الجمعة 5 ابريل . فى جامعة الجزيرة ، المدينة الجامعية ، النشيشيبة ،حـى الاســاتذة . لمن يصل عن طريق مدخله الشرقي ، يقـع على الناصية ، مع اول طريق فرعي ، يفـتح شمالا ، من الناحية المقابلة ، منزل الدكتور يحي بشير سراج ، المحاضر بكلية العلوم الزراعية و عضو نقابة الاسـاتذة بالجامعـة ويجاوره من الناحية الغـربية مـنزل البروفسـير عثمان على سيد احمد ( كشـومة ) ، المحاضر ورئيس قسم البساتين بكلية العلوم الزراعـية والى الشـرق الشارع المؤدي الى الحـي ، وعند تقاطعه مع الطريق المتجه غربا ، يوجد ( كـشـك الخـفير) او حارس الحـي ، ومن ثــــم فسحــة ميـدان واســع ، يمكن ان تري داخليات الطالبات على حـواف اطرافه الشرقية . انجزنا كل المهام التي كلفنا بها ، فى اجـزاء مختلفة من المدينة ... لتغطية نشاطاتنا ، وتمويه رجالات الامن ، كنا نستعمل اكثر من سيارة فى اليوم الواحد ... هذه السـيارات ( العربات) مملوكة لافراد من ابناء هذا الشعب لم يتوانوا فى اللحظات الحرجة ولم ينكسروا رغم القـمع والاعتقال والتضييق الذي تمارسـه اجهزة امـن السلطة ، فى سبيل دعم الحـرية والديمقراطية .. كانوا كراما يبذلون ممتلكاتهم الخاصـة فى نصـرة الحـق الوطني . الحصـول والوصول الى هــذه السيارات لم يكن بالمهمة السهلة بل تحتاج الى حرص محسوب.. على سبيل المثال ... ياتي شخص لا نعرفه فى ( بيت التامين ) ..وهو المكان الذي ندخـله لنقضي فيه الثلث الاخير من الليل ونغادره عقـب اذان وصلاة الصبح . ويلقى علينا السلام ب كـود متفق عليه ( كلمة السر ) ويسلمنا معلومـات عن مكان السيارة وموضع المفتاح .. في معظم الاحـوال يكونا فى موضعين مختلفين ... المفتاح يوجد فى موضـع معـين فى شــارع عـام معلوم ، السيارة نفسها فى مكان بشارع اخـر ... وحتى لحظـة كتابة هذه السطور .. اي ما يقارب الثلاثين عاما لم يتسنى لنا شرف معرفة معظم هؤلاء الابطال السودانين .. فلهم التحايا الوطنية على نبلهم وشجاعتهم . وبنفس القدر كانت بيوت اهـالى المدينة مفتوحة ابوابها فـهُم فضيلة الكـرم والشهامـة و الجـود ، هذا اقل ما يمكن ان نقول عنهم في هذه العجالة .. نـدخلها فى اواخــر الليل ، نسـترق الحظات لغـفـوة قريرة ، وننهض مع اذان الفجر . فى معظم الاحوال ... لا نرى احـدا من اهــل الدار . وكنا مضطرين ان لا نقضي ليلتين فى مكان واحد ، حسب ترتيبات السلامة ولتامين . هكذا مضى بنا الزمن منذ اغلاق الجامعة فى 31 مارس وحتى انبلاج فجر الثورة فى 6 ابريل 1985. وصلنا الى منزل كبير المهندسين عبدالحفيظ النور فى تمام الساعة الواحـدة بعد الظهر . وجدنا بالمنزل ، كل من البروفسير عثمان فضل (عميد كلية العلوم الزراعية ) ، الدكتور محمود عبدالله ( عميد الطلاب ) ، الدكتور يحي بشير ســـراج ، والبروفسير عثمان كشومة و المهنـدس عـادل سـليمان . توافــد الاعضاء ممثلى النقابات الدكتور محمد فراج ( الاطباء) ، المهندس محمد السنى ( المهندسين ) الاستاذ مجدى سليم ) المحامين ) ، الاستاذ جعفر عبدالرازق ( الهيئة القضائية) . السيد عبدالمنعم رحمــة ، السيد محمد الحسن ( عمال نسيج النيل الازرق) . الاستاذ عبدالعزيز عبدالمنعم ( الزراعيين ) الاستاذ عبدالرحمن حامد ( الضباط الاداريين ) و السيد محمد على رستم ( مشرف مشاتل جامعة الجزيرة).. واخريين (ارجو المعذرة ممن فاتني ذكر اسمائهم..). كانت اجندة الاجتماع هـي التحضير للمسيرة الكبرى يوم الغـد السبت 6 ابريل ، وكان الاعــداد يجري بالتنسيق مع التجمع النقابي في الخرطوم لتتزامن مع المسيرة التى تقرر ان تكون فى نفس اليوم والزمان هناك .. كانت مهمة كتـابة كل بيانات التجمع ونقـاباته ، مكلف بها الاستاذ مجـــدى ســليم المحامي ، والماجد طارق الشيخ . وكانت مهمة طباعة البيانات على الالة الكاتبة وتوزيعها على المراكز .. مسؤولية الماجد مرتضى كمال ، وعادل علي صالح ومن ثم يشارك بعض الحضور فى تشغيل مكنت الرونيو ، وترتيب البيانات ... كانت الالة الكاتبة ومكنت الرونيو لاتفارقنا ابدا ، كنا ننقلها معنا فى ( ضهرية ) العربات تحـت جنح الظلام من مكان الى اخـر ومن عربة الى اخـرى. رحم الله البروفسير الانسان الطيب على الحاج المشرف الادراى لكلية العلوم الزراعية والذى كان لتعاونه وموقفه الوطنى الصادق الفضـل الكـبير في تسـهيل مهمة الوصـول الى مكـنة الرونيـو الخاصــة بالكلـية ، وسماحه باستخدامها ، فقــد كانت الوســيلة الـوحــيدة التى استطاع التجــمع من خلالها ، التواصــل مع جماهير مدينة ودمــدنى عبر المنشورات المطبوعة عليها . فى حوالى الساعة السادسة مساء ، بعد انتهاء الاجتماع وبعد الفراغ من نســـخ وطباعة البيانات لكل النقابات المكونة للتجمــع . كانت مهمتنا تنظيم توزيع تلك البيانات لممثلى النقابات فى الاحيــاء ، وبعض الافراد الناشـطيين فى المدينة ، وبدورهم يوزعـونها عـلى حسب الخطــة الموضوعة... كان علينا التحفظ العالي حتى لا تتعرض ثورة الجماهير في مهدها لهفوات انتكاسية قد تعرقل سيرها فى زحـفها الصاعد .. وسـيلتنا للتنقــل هذه المرة .. سـيارة البروفســــير عثمـان على سـيداحمد ( كشـومة ) .. وكما هو العهـد به لم يتردد .. بل بادر بان سيارته جاهـزة ومليانة بنزين . بالفعل .. اخـذ مرتضى المفتاح ورافـقه طارق وشخصي واكملنا المهمة بنجاح وتمكنا من تسليم بعض البيانات الى الاشخاص المنوط بهم ذلك . مثلا ، هنالك تاجــر ، صاحب دكان فى حـي بانت ، كان يمثل مركز توزيع رئيسي ، لبعض النقابات مثل عمال المؤسسة الفرعية لاعمال الري ، و نقابة البحوث الزراعية ، والعاملين بشركة مواصلات الجزيرة، والعاملين بالمدبغـة الحكومية ، ولبعض الناشطين فى ذلك الحي لـيتم نشرها بين السكان . كما تركنا الجزء الاخــر من المنشورات فى مواقع ونقاط محــددة فى ( حـتات) مثلا بالقرب من عمود فى طرف الشارع ، او عند مدخل المستشفى او تحت صندوق فى السوق وهكذا ، لمنـاديب النقابات الذين ســوف يحضروا فى وقت لاحــق لاخــذهـا. قررنا ان نعود الى النشيشيبة لاخــذ مكنة الرونيو وتسليم البروفسير كشومة سـيارته . تبقت لنا وقفتان الاولى منزل زملينا محمد الامين الجعلي ( الدفعة الاولى طـب) فى حي بانت ، وان نترك طارق هناك ، ليمر بـه المهندس محمد السني ويذهبا سـويا لمقابلة السيد صالح عوضة فى مدبغـة الجزيرة ، لتنفيذ بعض المهام . والوقفة الثانية كانت لمقابلة عبدالعزيز عبدالمنعم فى نقطة بالقرب من منزله لتسليمه المنشورات الخاصة بالزراعيين وقـد كان . جرت العادة ، كضرورة تامينيه ، تتطلب الكثير من اليقظة ، تملى التصرف بحيطة وحذر . لا نسلك طريق سير مباشر او ثابت ، خطوط السير شوارعا متعددة ودروب متعرجة غير مباشرة .. نغير اتجاهات حركتنا كثيرا.. حتى نتاكد من اننا غير ملاحقين او مرصودين من قبل اجهزة الامن .. يرجع الفضل للمهندس محمد السني ، ممثل نقابة مهندسي الري .. خبير التامين السياسي الذي اسـتفدنا منه فـائدة لا يمكن ان نعلمها من دونه . حوالى الساعة العاشرة مسـاء تقريبا .. وصلنا الى منزل المهندس عبدالحفيظ النور عائدين من ود مدنى ، وبمجــرد وقــوف العـربة ، امــام المنـزل نزلت لفتـح البوابة .. اصابتنا الدهشة والحيرة ورفعت علامات التعجب .. لان الاتفاق ، البوابة سوف تبقى مفتوحـة حتى نرجع ؟ وقفلها هو كلمة السر ، واعلان نجاح مهمتنا ؟؟ . منازل الاساتذة بالجامعة كان سـورها الخارجي من الاشــجار وابوابها الخارجية واسعـة وقصيرة مصنوعة من الحديد ( الشبك ) يمكن ان ترى من خلالها بوضوح باحـة المنزل وحديقته الامامية ، وتستعمل ايضا مدخـل للسيارات .. اذا بصــوت خفيض ينادي عادل ، مرتضي .. كان مصدره من اتجاه منزل الدكتور يحي بشير ســراج ؟ .. وكما ذكرت في مرة سابقة ، هو المنزل المجاور فى الواجهة المقابلة .. يفصل بينهما شــارع مسفلت ضيق .... خببت فى اتجاه المنزل وجـدته عند البوابة من الداخـل . نبهني الى ان ( نتصرف ) بسرعة لان قوة من الامن داهمت المنزل واعـتقـلت كل من فيه فى ذلك الوقت المهندس عبدالحفيظ النور والمهندس عادل سليمان ودكتور كشومة وصـادروا مكنت الرونيو . والامن يراقـب المنزل ، من كشك الخفير . عدت سريعا .. طلبت من مرتضى ، ان ( يدور ) وعلينا مغادرة المكان فـورا ، اخبرته بكلام الدكتور ، واضفت ان علينا التصرف باسرع فرصة والتخلص فى الاول من السيارة ، لانها معروفـة لدى جهاز الامن . وبمجرد خروجنا من حـى الاسـاتذة .. وعند اللفـة قبيل دار الاتحـاد والنشاط الطلابي انتبه مرتضى الى ان هنالك موتر سايكل وعربة تايوتا (بوكس) ، بالقرب من داخلية الطالبات .. وبعد مــدة مـن تجاوزنا مباني الكليات في طريقنا الى خارج المدينة الجامعية ، تراءت حركة انوار السيارة والمـوتر سايكل من على البعـد من خلال الظلام الكثيف .. زاد مرتضى من سرعة السيارة ، انطلقنا شـرقا فى طريق مدني – القضارف ومن ثم اتجهنا جنـوبا بشارع الدباغـة وانوار السيارة والموتر سايكل تقـترب .. انحرف مرتضى يمينا ناحية سينما رودي.. لاحظت توقف السيارة البوكس على شارع الدباغة بينما ظل الموتر فى متابعتنا .. ثم فى اول طريق بعد السينما اخذنا يسار ، واستمرينا على نفس المنوال ، ناخــذ يمين ثم نرجع شمال .. لا ندري وجهـتنا . فجأة اخـتفى الموتر من متابعتنا ولم يبقى له اثر . لم نكن نلم بتفاصيل شوارع وازقة الاحياء الداخلية ... بالصدفـة وحـدها وجدنا انفسنا مرة اخري فى شارع الدباغـة عند لـفة حي المدنيين .. ثم واصلنا سيرنا فى اتجاه شارع النيل . انحرفنا الى اليسار عند المدرسة الاميرية لندخل حي ام سويقـو ، وعدنا مرة اخري الى شارع النيل مـرور بمباني رئاسـة حكومة الاقليم الاوسط ، هنا ظهر الموتر مرة اخرى يتعقبنا ، انحرف مرتضى جنوبا بشارع الجمهورية المؤدي الى السوق الكبير . الموتر مازال يلاحقنا . ومرتضى يزيد من السرعة .. بالمناسبة هى سيارة تايوتا كرونا صالون اربعة ابواب .. وعند مكتبة الفجر وركن حديقة وقيع الله ، فجاة غير مرتضى الاتجاه ونحرف يسارا ، ثم انحرف يمين على شارع اتجاه واحد جنوبا . كانت الساعـة تشير الى الحادية عشر والربع مساء.. السوق خالى تماما من اى حركة للافراد او السيارات ما عـدا حركة بسيطة عند موقف المواصلات . وقبل ان نصل الى تقاطع شارع المستشفى اختفى الموتر مرة ثانية ، عندها غيرنا اتجاه السير ، بدلا من دخول المستشفى ، اتجهنا غربا بشارع الدكاترة ... لمنزل احد الاقارب فى ذات المنطقة ، عـلى امل ان يكون الوقت فى صالحنا ونتمكن من اخـفاء السيارة فى منزلهم .. ولكن هيهات لم يكن احد بالمنزل ..وهنا تمكن الموتر من رؤيتنا بعد ان تجاوز الشارع غـفل راجعا .. وبدات المطاردة من جــديدا .. واصلنا هذه المرة بشارع المستشفى شرقا .. ثم يمـينا بشارع (مايو) متجاوزين ســجن مـدنى العمومى ورئاســـة جهـاز الامـن ... وبعد قليل ظهرت ســيارة تايـوتا بوكس اخــرى بالاضافة الي الموتر ... فى حى مايـو فـؤجـــئنا بان الطريق مقفـول امــامنا تماما .. بواسطة ســيارتى تايوتا (بوكس) ، ووقوف خمسة افراد فى منتصف الطريق . والسيارة البوكس والموتر يضيقـان علينا .. اخـذ مرتضى فى تخفيض السرعة , والسيارة تبطئ .. لاحظنا ان هنالك حـفل فى احدى البيوت الفاتحة على الشارع ، فما كان من مرتضى الا ان انحرف فجأة وبسـرعة نحـو ( صيوان ) المناسبة ، تابعتنا السيارة البوكس والموتر سايكل وقفوا بجانب سيارتنا . كنا قـد غادرناها مســرعين الى داخـل ( الصيوان ) ، ترجل ثلاثة افراد للحـاق بنا .. فـنان يصـدح .. حـلــقـة رقـيص (عجاجتا فــوق ) .. هـيئاتنا تـدل على اننا ( الخـطأ ) فى المكان الصــحيـح ؟؟ نتــلفـت ذات اليمن وذات اليسار .. ومرة حول نفسنا.. وبطــرف العـين.. نحاول نسـرق الصــورة الورانا ؟؟ . كانت كل امالنا معلقــة على ان ( نعــتر ) فى واحــد من طلاب الجامعة .. عسي ان يتمكن من مساعدتنا.. ونستطيع ان نتـدبر المخـــارجــة . لســوء حظنا لم نجـد اي من طلبة الجامعة او اي من المعارف فى تلك اللحظـة .. نتحاور في ما بيننا ماذا نفعل .. وما هي الخطة .. واحد من افرد الامن يتحرك ناحيتنا ، حتى صار على مقربة ..وبكل غضب ، قال بيده هكذا ، أي ( اصبروا او انتظروا) ، وظل يكررها ، متى ما التفتنا ناحيته .؟؟. كنا نتكلم بصوت شوية عالى حتى نتمكن من سماع بعضنا البعض صوت الفنان وفرقته ومكبرات الصوت كانت صاخبة ومزعجـة ؟؟ على كل حال .. ما ان يتحرك رجال الامن ناحيتنا .. ( نفـج) طريقنا فى الزحام ( لي قـدام) نحـو الصفوف الامامية .. منظــرنا لفت انتباه بعض الحضور ؟؟ فى لحظ محـددة اتفقنا على ان نفترق فى محاولة لتشتيت افراد الامـن ، واذا تمكنوا من اعتقال اي منا او كلنا .. اكدنا على ضرورة تنفيـذ استراتيجية كيفية التعامل مع الاستجواب والتحقيق ومقاومته ... كنا قد تدربنا واعدينا انفسنا تمام الاعداد لتقبل هذا الاحتمال فى تلك اللحظـة يظهر .. ملازم سـجون ( يعمل فى سجن مـدني ) نعـرفه ، هو الشـقيق الاصغر لزميلنا الطالب بكلية الطـب ، وقـد توثقت معرفـتنا به ، بواسطة صديق مشترك ، زميله فى العمل ودفعته الملازم ( ود حلتنا من بحرى) ... يرقص مـع مـجمـوعة من الشابات .. فما كان مني الا ان تقدمت نحــوه ..اندهش ، فاتحا عينيه بتساؤل ؟ ، لم اعـطه فرصـة سلمت عليه بالاحضان .. وهمست فى اذنه ، ناس الامن مطاردننا .. اجابني ، شايفهم ؟؟ ..تحدث الى الشابات بان يواصلن رقيصهن وان يبقين فى مكانهن حتى يرجع وذكرني بان اظل واقفا ونادى على مرتضي بيده ان يحضر .. واستاذن .. غاب لفترة قصيرة ثم رجـع .. واثناء التظاهر بالرقيص .. اوضح لنا ان الخطة جاهزة .. وهي ان نتحرك الى داخل المنزل ( منزل اهل العروس وهم اقرباؤه ) ، سوف تقابلنا الحاجـة فاطنـة ، لتحدثنا بالتفاصيل .. وما علينا الا التنفـيذ . واحـد تلو الاخر ( انسللنا ) الى داخل المنزل .. قابلتنا الحاجـة فاطنة بترحاب وعطف كبير.. يا اولادي اكلو حاجة .. شكلكم ( جعانيين ).. رغم الحاحها الا اننا شكرناها معتذرين ان علينا الذهاب...الحقيقة كنا جـياعـا ، فلم نذق طعاما خلال اليوم .. ما عـدا شاي الصباح ، والقيمات .. الذى تناولناه فى منزل زميلنا وصديقنا ، عبدالعظيم عبدالغني ( خريج الدفعة الاولى زراعة ) فى حي مائة واربعطاشر ، حي العمال الشوامخ ، حيث قضينا ليلتنا السابقة . على كل، فى تلك اللحظات لم نكن نفكر فى الاكل بقدر ما كنا نريد ان نعرف منها الخطة كما ذكر صديقنا (ملازم السجون ) ... وبالفعل وضحت لنا بعد ان اجلستنا على ( بنابر ) بالقرب من الطباخين والحلل والقدور الكبيرة ؟؟ .. اولا علينا ان ( ننط الحيطة دى لبيت الجيران ، ما تخافوا حاج عثمان عارف ، ومن هناك هو بيفتح ليكم الباب .. اجـروا على يدكم اليمين لحدي نهاية الشارع برضوا لفوا يمين .. وبعدين يمين .. البيت الثالث الفاتح على الشارع الرئيسي .. يعنى فى نفس شارعنا ده .. ده مـيز ضباط السـجون .. ادخلوا بتلقوا مضمــون اســمـوا ادم .. قولوا ليهو دايرين اوضــة ( النقيب صلاح ) ، وهاكم ده المفتاح الاداني ليهو صاحبكم ( ملازم السجن ) .. ) ( نطينا ) الحيطة ، حاولن بعض النسوة الموجودات فى الحوش .. الصياح او الصراخ لكنها ( قمعتهن وزجرتهن ) .. اســكـتن؟؟ . حاج عثمان اسـتقبلنا فى الجانب الاخر من الحيطة بتجهيز طربيزة حـديد ننزل عليها من علو الحائط .. شجعنا بكلام طيب ، ودعاء الله بنجاح نضالنا فى ازالة حكم الطغاة .. ثم فتح لينا الباب ، واعاد وصف خارطة الطريق الى بيت مـيز ضباط السجون ... وخرجنا .. واحـدا .. بعــد دقائق الاخر .. وصلنا الى المـيز .. وجـدنا ( المضمون ) ادم .. فتحنا غرفة النقيب صلاح ، دخلنا وقفل الباب .. اخبرنا بانه حارسنا ، تنفـيذا لتعليمات الملازم . ولن يسمح الى اي شخص بدخول (الاوضـة ) .. كانت الساعة الثانية صباحا ... لم نتحدث الى بعضنا اكثر من خمس دقائق تقريبا .. لنفـيق فجأة على صوت طرق على باب الغرفة .. فتحت الباب اذا هو صديقنا ( ملازم السجن ) ، والساعة تقريبا حوالى الثالثة وخمسة واربعون دقيقة ... يحمل معه بعض طعـام من طرف حاجـة فاطنة .. طعمية ، لحمة ، رغيف ، وفطائر .. حدثنا بان الحفـلة انتهت منذ قـليل ... ( وان ناس الامن بعـد ما قنعوا منكم .. حارسين العربية .. معتقلنها عديل ..) كما قال.. وطلب من مرتضى ان يعطيه المفتاح ، عسى ان يتمكن من تدبيـر وسـيلة ، او يخدمه الحظ لاخـذ السيارة .. حذرنا بان ( حدوا معانا الساعة خمسـة ).. ثم غفل راجعا من حيث اتى ... تفاكرنا فى كل السناريوهات المحتملة .. وكنا قلقين على مصير سيارة البروفسير كشومة ، خاصة مرتضى كان الاكثر قلقا وانزعاجا ، وظل يردد ان هذه امانة ولازم تسلم الى صاحبها فى الاول .. واذا كان فى قـبض ، احسن يقبضونا نحن بس العربية ترجع للـبروف... وانه حيطلع ويمشي للجماعة ديل .. ويحصل ما يحصل .. وبينما نحن فى هذه النقاشات ..عاد صديقنا ( ملازم السجن ) حوالى الساعة الخامسة والربع .. وهو يبتسم قال خلاص فـرجت .. بصوت واحد ردينا .. ادوك العربية .. اجاب .. لا ما قدرت اشيلها ... لكن عرفت من الضابط النبطشي فى السجن حاجات كويس ، اول حاجة جماعتكم القبضوهم امس جابوهم السجن ولموهم مع المعتقليين السياسيين التانيين .. وده خبر كويس جـدا لانو لو خلوهم لناس الامن كان بعذبوهم ( وبالفعل فقد تم تعذيبهم هناك كما عرفنا لاحقا ).. الحاجة التانية انو ناس الامن رفعوا ليهم الاستعداد اكثر من مائة فى المائة !! تسالنا كيف ؟ اجاب ، لما يرفعوا الاستعداد لدرجاته القصوى ما فى اذن لاي زول .. ولازم كل القوة تكون فى الخـدمة ، ويشكلوا حضور فى طابور التمام الساعة السادسة .. وده معناتو الجماعة الحارسين العربية لازم يرجعوا لرئاسة الامن... يبقى لازم ارجع اراقبهم وفى اللحظة البنصرفوا فيها بجيب العربية واجيكم بعدها تتخارجوا ودبروا امركم .. اتفقنا على كده .. عاد (ملازم السجن ) يقود سيارة البرف.. فى حوالى الساعة الخامسة واربعون دقيقة ... ودعناه وشكرناه بحرارة .. ونحن نستعد لمغادرة المكان .. حذرنا مرة اخرى من ان لا نحتفظ بالسيارة لمدة طويلة .. ويجب التخلص منها باسرع فرصة... تشـاورنا فى امرنا ووجدنا ان اسرع طريقة هي ان نذهب الى منزل صديقنا عبدالله عكود الطالب بالجامعة كلية العلوم والتكنولوجيا ... فى الطريق ناقشنا بعض البدائل ...في النهاية تمكنا من الوصول الى منزل المرحوم الدكتور حسن حسين النعيم مدير مستشفي الصدرية السابق ... فى الحي السـوداني وجـدنا ابنه خالد الطالب بكلية الهندسة جامعة الخرطوم ، وبالفعل اخفينا سيارة البروف داخل منزلهم ، ووفـر لنا خالد سيارة اخرى ، وقبل ان نتحرك حضر الدكتور حسن حسين من خارج المنزل ممسكا راديو ، خاطبنا ، انتو ما شين وين .. اجبنا ، للمشاركة فى المظاهرة التى اعددنا لها لتكون هذا الصباح .. قال تعالوا اقعــدوا اسمعوا الكلام ده... مـوسيقـى مارشات عسكرية تنطلق من الراديو .. ومـذيـع يعلن للمستمعين الكرام ، بان القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة سوف تذيـع عليكم بيانا هاما بعـد قـليل .. فترقبــوه؟؟ خـيم صمت مطبق على مجلسنا ما عـدى صوت المارشات العسكرية .. التى يقطعها صوت المذيـع ... يطلب منا ترقب البيان الهـام بعد قليل ..؟؟ استمر الحـال وعيوننا مسمرة على الراديو كاننا نشاهد تلفزيونا ... واذا بالمشير عبدالرحمن حسن سوار الذهب يعلن انحياز قوات شـعبنا المسلحة الى الجماهير .. استيلاء القوات المسلحة على السلطة .؟؟ واطـلاق ســراح عربية كشومة ؟؟ .. فجـأة ينتهي كل شي .. انهارت قلاع الديكتاورية فى لحظـات ...وهذه كانت لحظة بداية ونهاية ... بداية عهـد جديد، ونهاية عهد بغـيض . يا لهــا من اربع وعشـرون ساعة . البروفسير عثمان عـلي سيداحمد ( كشومة ) هـــو ســنام فخـرنا وهـــذه احـــدى مــآثره التى اكــرمه الله بها . نترحم على ارواح الذين فارقوا هذه الفانية الى دار البقاء ، من قيادات التجمع النقابي فى مدني .. الدكتور محمد فراج ،رئيس نقابة الاطباء ، الدكتور مدني احمد عيسي ، سكرتير نقابة الاطباء، السيد عبدالمنعم رحمة رئيس نقابة العاملين بمصنع نسيج النيل الازرق ، الدكتور محمد نورالدين حسين المحاضر بكلية الاقتصاد ( الحزب الناصرى) ، البروفسير صلاح طه المحاضر بكلية الطب ( نقابة الاساتذة) ..المهندس عبدالحفيظ النور ، والمهندس عادل سليمان اللهم ارحمهم نزلهم فسيح جناتك .